Site icon IMLebanon

تفاصيل مُستجدّة في قضية إختطاف بطرس خوند وبشارة رومية

14 مسلّحاً يشهرون سلاحهم على القيادي الكتائبي بطرس خوند. يَضعونه في سيارة. يُكبّلون يديه، يطمّشون له عينيه، وينطلقون بأقصى سرعة. ها هو ينزل عبر درج طويل إلى زنزانة رطبة عفنة تحت الأرض. يُفتح الباب ويدخل الجلّادون ليدفعوه إلى الأمام عبر المفاصل بين الزنزانات، يجلسونه على كرسيّ حديديّة مخصّصة للتحقيق: «أهلاً وسهلاً بك. أنت في السجون السوريّة… كنّا ناطرينك من زمان».

تفتح جانيت، زوجة بطرس خوند، عينيها وتنهمر الدموع بغزارة على وجنتيها. كان ذلك الحلم – الكابوس في 15 أيلول 1992. سرعان ما انتقلت منه إلى أحلام – كوابيس اليقظة التي تُعيد يومياً إلى ذهنها ملامح ذكريات ما سبق ذلك اليوم المشؤوم، عندما أخبَرها زوجها القائد الكتائبي أنّه يتلقّى تهديدات من جهات مخابراتية لها علاقة بالنظام السوريّ.

فجأة يدقّ الهاتف الخلوي في 10 أيلول 2014، فتعود جانيت إلى الواقع، تستفسر عن هويّة المتصل:

– أنا نازح سوري ولديّ معلومات عن زوجك…

عادة، تتعامل جانيت بحذر مع المعلومات التي تُنقل إليها عن زوجها، ولا تُصدّق ما لم يكن هناك أدلّة محسوسة أو على الأقل ما تتوافر فيه بعض شروط الصدقيّة، لأنّ بعض التسريبات، وبعد خبرة جانيت الطويلة في هذا المجال، مدسوس من النظام السوري بهدف التضليل.

لكنّ هذا النازح السوري قدّم بعض الخيوط التي جعلتها تتابع معه الموضوع، وقرّرت أن تستمع إلى ما سيَرويه بصرف النظر عن الهدف من مبادرته.

فجانيت التي تعيش وتُعدّ الأيام والساعات، على أمل لقاء زوجها يوماً، تتمسَّك بحبال الهواء وتعرف أنّ عليها الإصغاء إلى كل من يقدّم إليها معلومات، وهي تُقدّر بفطنتها ما إذا كانت حقيقيّة أم لا. تَحدَّد الموعد مع الرجل السوريّ، ورافقت «الجمهورية» جانيت إلى اللقاء المنتظر.

– زوجك لا يزال حياً يُرزق وهو في قبضة «جبهة النصرة»، وتحديداً مع مجموعة أبو محمد الجولاني بعدما اقتحمت أحد سجون النظام السوري وراحت تنقله بين ريف حلب وريف حمص، وهو في وضع صحيّ سيئ، عاجز عن المشي.

في تلك اللحظة، ربطنا تلك المعلومات بما توصّل إليه الرئيس أمين الجميّل منذ فترة عندما اتّصل سياسيّون لبنانيّون على تماس مع أقطاب المعارضة السوريّة، وفي مقدّمهم رئيس المجلس الوطني السابق برهان غليون، وأبلغوا إليه أنّ المعارضة السوريّة سَيطرت تماماً على منطقة في ريف دمشق، يقع فيها سجن يضمّ معتقلين سياسيّين سوريّين، وقد تمّ تحرير هؤلاء. وأفاد أحدهم أنّه شاهد بطرس خوند في السجن، قبَيل خروجه منه.

وعلى الأثر، طلب الجميّل من هؤلاء السياسيين اللبنانيين أن يعملوا مع أصدقائهم السوريين للتثبّت من دقّة هذه المعلومة. فإذا تبيّن أنّها صحيحة، يبدأ العمل على المبادرة لإطلاق خوند، خصوصاً أنّ الرسالة التي كان قد وجّهها المجلس الوطني إلى اللبنانيين قبل أيّام تتضمّن التزام الإفراج عن المعتقلين السياسيين اللبنانيين. وهذا هو تحديداً ما توافر للقيادة الحزبيّة من معطيات، وما دفعها إلى إبداء بعض الآمال، إلّا أنها لم تسترسل فيها منعاً للوقوع في أوهام.

فهل تكون المعلومات التي زَفَّها هذا المواطن السوري على قدر الآمال، هذه المرّة، وهو شخص عاديّ غير مسؤول ولم يُبدِ أي رغبة كشرط مالي أو شيئاً من هذا القبيل؟

لكنّ الشك بقيَ يُلازم جانيت التي كانت تُدرك أنّ النظام السوري يحاول أن ينزع عن زوجها «تهمة» اعتقال المسؤول الكتائبي على رغم المعلومات السابقة التي أكّدت وجوده في سجونه.

لذلك استمعت جانيت إلى الرواية المدعّمة بأسماء وتفاصيل، إلّا أنها لم تصدّقها، واعتبرت أنّ «الرجل» يحاول رفع المسؤولية عن النظام السوري وإلصاقها بالآخرين سواء «جبهة النصرة» أو «داعش» اللذين لا يملكان أيّ سبب لإبقاء بطرس خوند معتقلاً لديهما، إذا صَحّ وجوده معهما، لأنّ مسيرته العسكرية النضالية سبقت ولادتهما.

والمعروف أنّ خصومته كانت مع النظام السوري الذي احتلّ لبنان 30 عاماً، وهو الوحيد الذي لديه مصلحة أساسية في إخفاء خوند الذي كان يرسم الخطط العسكرية ويقود المقاومين على الجبهات في مواجهة المدّ الفلسطيني والأطماع السوريّة.

مع ذلك، لم ترفض جانيت ما زوّدها به هذا الرجل من معلومات، منها رقم هاتف سيّدة سوريّة تعرف المكان الذي يُحتجز فيه خوند في سوريا. حاولت جانيت الإتصال بها، لكنها لم تجب من المرة الأولى. وبعد محاولات حثيثة، نجحت في الحديث معها. كان الاتصال مقتضباً، لم تؤكّد ولم تنف، ثم انقطعت الاتصالات بها.

وعادت جانيت إلى نقطة البداية. وعلى رغم تقاطع معلومات النازح السوري مع بعض التسريبات السابقة، لكنها لم تعد واثقة إلّا من أنّ زوجها لا يزال حياً يُرزق. أمّا تفسيرها لحركة «النازح»، فوضعتها في إطار حملات التضليل التي ينتهجها النظام في هذا الملف الغامض، إذ لا يزال مسؤولاً عن سلامة بطرس خوند.

وتقول جانيت: «حتى لو كان زوجي، كما زعم ذلك الرجل، في قبضة «جبهة النصرة» على رغم أنني لا أصدّق هذه الترّهات، فأنا أحمّل النظام السوري مسؤولية سلامة زوجي وحياته، لأنه هو من بادر إلى خطفه واعتقاله وإخفائه كل هذه الأعوام».

وعلى رغم أننا مقتنعون بكلام زوجة خوند بأنّ العمليّة تضليليّة ولا أساس لها من الصحة، يبقى السؤال الكبير: لماذا لم تبادر «جبهة النصرة»، إذا افترضنا أنّ خوند بات في قبضتها، إلى الإعلان عن ذلك والإتصال بالسلطات اللبنانية، على الأقل لمقايضته بسجناء اسلاميين في سجن رومية؟ وبماذا ينفعها التزام الصمت، خصوصاً أن لا سبب لديها لتحتجز من كان خصماً للنظام الذي يقاتلها اليوم؟

بشارة روميّة

مُعتقل آخر أظهرت الحرب السوريّة استمرار وجوده في سجون النظام السوري. إنه بشارة روميّة، إبن بلدة رياق البقاعية. والدته ميراندا لم تكتفِ برؤيته في الأحلام، بل دأبت على زيارته خلال الثمانينات في السجون السوريّة على نحو متقطّع.

فهو مرَّ في سجون عديدة قبل أن يراه شقيقه إيلي من بين المعتقلين المفرَج عنهم في باص عَبَرَ الحدود السورية – اللبنانية عام 1998. لكن في اللحظة الأخيرة، وقبل تسليمه لذويه، تمّت إعادته مع تسعة شبّان آخرين إلى سوريا. وما إن عرف والده بذلك حتى أُصيبَ بذبحة قلبية وفارق الحياة بعد شهر واحد!

أمّا أمّه فتعبت من الإنتظار وقد تدهورت صحّتها منذ أسابيع، لكن المعلومات الحديثة التي تَردها من وقت إلى آخر تبعث الإطمئنان في قلبها المتألم بأنّ ابنها بشارة، على الأقل، لا يزال حياً يُرزق. فالشاب الذي انضمّ عفوياً في بدايات الحرب اللبنانية عام 1975، وعلى رغم صِغر سنه، إلى «نمور الأحرار» مقاوماً الفلسطينيين لا السوريين، لا يزال يتنفّس وإن بصعوبة بعد كل أعوام الأسر في أخطر سجون العالم وأكثرها قساوة وظلماً.

شقيقه إيلي لا يملّ من متابعة التطوّرات في سوريا بدقّة. عام 2005، بثّت شاشة ANB، التي يملكها رجل أعمال عراقي وآخر لبناني، شريطاً مصوّراً عن السجون السوريّة، ظهر فيه المُعتقل روميّة في الطابق الثاني من سجن العدرا. سرعان ما عَرفَت العائلة أنّ ابنها تعرّض بعدها لمعاملة قاسية، وأخبرها سجين سوري كان معتقلاً معه أنه نُقِلَ عام 2009 إلى المبنى العسكري في سجن حلب التابع للشرطة العسكريّة.

ومع اندلاع الثورة السوريّة في آذار 2011، اجتاح القلق عائلة روميّة كمعظم العائلات اللبنانية التي أخفيَ أبناؤها قسراً في السجون السورية، وتحوّل الأمر كابوساً بعدما اقتحم الثوّار السوريون أحد مباني سجن حلب، وباتت المنطقة عرضة للمدّ والجزر بين طرفي القتال.

تمكّن الثوّار من تحرير بعض المعتقلين، وبقيَ إيلي روميّة يتساءل عن مصير شقيقه، إلى أن اتصل به سوريّ كان معتقلاً مع شقيقه في السجن، تمكّن من الفرار بعد اقتحام المبنى وانتقل إلى الخارج وأخبره أنّ شقيقه أصيب في عينه وقدمه خلال المعارك العسكريّة التي حصلت في محيط السجن وفي داخله.

ويقول إيلي روميّة: «لأنّ السجن بات جبهة عسكريّة، نقلت السلطات السوريّة، في 24 أيار 2014، 342 معتقلاً من سجن حلب إلى سجن مدرسة الوحدة في حيّ الشهداء- حلب الجديدة، من بينهم 20 معتقلاً لبنانياً، من المفترض أن يكون شقيقي بشارة من بينهم».

يعيش العديد من أفراد عائلات المعتقلين اللبنانيين في السجون السوريّة على أمل أن يسمعوا ذات يوم طرقاً على أبوابهم أو رنيناً لأجراس هواتفهم، معلناً عن ظهور أحبّائهم، أو يأتيهم بخبر عنهم على الأقل. وما أكثر التجّار والسماسرة الذين تلاعبوا بعواطفهم في هذا المجال، مقابل بَيعهم الأوهام والسراب.

لكن هذه القضية لا يجوز أن تغيب عن بال أي مسؤول لبناني، مهما كانت درجة خطورة الأوضاع العسكرية في سوريا، لأنّ قسماً كبيراً من هؤلاء المعتقلين لا يزال حياً وليس من المنطقي نسيانهم هناك، خصوصاً أنّ هناك من ينتظر عناقاً وفرح اللقاء بعد انتظار مغسول بخلّ الجلجلة.