بدأت بصمت وانتهت بصخب… هي معركة القلمون – 2 التي تهاوَت فيها الجرود والتلال الواحدة تلو الأخرى من أيدي «جبهة النصرة» و»الجيش الحر» الذي سانَدها.
بدأت العملية العسكرية من جرد بريتال – عسّال الورد المتصِل بأصبع الطفيل المحاذي للأراضي اللبنانية. أمّنت الوحدات التابعة للمقاومة المناطق من خلال السيطرة على المفاتيح الكاشفة لها، فنشرت نقاطاً تأمينية بخط انطلاق متعرّج. حينذاك، شكّل المسلحون «جيش الفتح» بقيادة «النصرة» وبدأوا تحت وطأة الحرب الاعلامية والنفسية القتال الهجومي. لكنّ المعركة لم تكن قد بدأت بعد.
فتحت المعركة في مثلّث جرد عسّال الورد – الطفيل- بريتال وحدّد الهدف الاول «قرنة النحلة»، واصطَدمت القوات أثناء عمليات التقدّم والرصد بكمائن المسلحين، فكانت ضرورة لحمايتهم. عندها، صدر أمر العمليات بشنّ عملية محدودة لتحرير هذا المثلّث وصولاً الى خط الزعرور مع تأمينات في الاتجاهَين اللبناني والسوري.
وخلال 24 ساعة، تمّ اختراق المنطقة وتطهيرها على رغم صعوبة التطهير بفِعل العوامل الجغرافية المعقدة جداً، بالاضافة الى حجم التحضيرات الهندسية ومستواها والمرتبطة بالتفخيخات والتشريكات التي تعرّض القوّات للمخاطر.
سقوط قرنة نحلة
مرتفع قرنة نحلة المشرف على مرتفع المحمضات من الجهة الشرقية وعلى معسكر الدار والمعسكر الازرق الذي تقع كل المنطقة تحت إشرافه ولا سيما شعب الجماعة التي تحوي مقرّات عدة لـ«جبهة النصرة» وصولاً الى الباروح، كان نقطة البداية.
انقسم «جيش الفتح» الى مجموعتين، وانتشر على مساحة جرد عسّال الورد والجبة، وكان حاضراً للتعزيز والمساندة بقوة معابرها مفتوحة الى جرود رأس المعرة وفليطا ومجهّزاً بكميات كبيرة من الاسلحة من صواريخ وقبضات موجهة ورشاشات 23 ملم و14,5 ملم و14,7 ملم وصواريخ «هاون» و«غراد» وأسلحة مضادة للدروع (ميلان- كورنيت- كونكورس وتاو)، لكنّ المقاومة لم تستعمل في هجومها الآليّات، وهذا شَكّل عاملاً كبيراً في نجاح عملياتها.
بعد الرصد الدقيق، تمّ تشكيل أربع مجموعات: مجموعتان في الخط الامامي ومجموعتان في الاحتياط يساندها دعم ناري قريب وبقاعدة نار بعيدة.
بدأت المناورة بعد الإشراف بالرؤية النهارية والليلية. تسلّلت مجموعتا مشاة الى مرتفع قرنة النحلة.
وفي الليل وعند بزوغ الفجر، دكّت قواعد النار التلة وخطوط تعزيز العدو وإمداده، ثم تحركت قوة المشاة وثبّتت النقطة على المرتفع، فيما التفّت مجموعة اخرى عليه من الخلف، وهناك وقعَ اشتباك عنيف على بعد امتار فانسحب المسلحون شمالاً تاركين وراءهم قتلاهم وذخائرهم ومعداتهم، وأتبِع هذا الانجاز بالسيطرة على معبر الصهريج، أهمّ خط إمداد للمسلحين الى هذا الجرد.
وهنا عرف «حزب الله» أنّ عمليته العسكرية تحوّلت الى «الموفقية»، وهو مصطلح يستخدم في العلم العسكري عندما يغلب الحظ في سرعة الانجاز وتحقيق الاهداف في أقلّ وقت وخسائر.
وبسقوط قرنة نحلة، تلقّت «جبهة النصرة» ضربة قوية وبدأت بالتراجع محاولة الحفاظ على مواقعها الخلفية. لكنّ الهجوم استمرّ بعنف، واتخذ «حزب الله» أسلوب المفاجأة في غالب الأحيان، في الزمان والمكان، واعتمد على المشاة الذين يقاتلون بسلاح عدوّهم وبطريقته وبالأعداد نفسها.
السيطرة على مرتفعات نحلة أتاحت للمقاومة وصل جرود بريتال بعسّال الورد وتابعت تقدّمها في اتجاه جرود الجبة الأكثر تحصيناً للمسلحين وتضمّ اكبر تجمّع هو تجمّع سهلة الواطية المعيصرة ومسؤولها عماد دياب يلقّب «العمدة» وعديد مقاتليه 300.
و«العمدة» هو القائد الجديد للفرقة 11، عيّن نائب أمير «جبهة النصرة» ابو مالك التلي في «جيش الفتح» ودخل بحماية الجبهة الى مقرّه العسكري في الجبة، وهو موجود الآن تحت الاقامة الجبرية لدى «النصرة» بعد اتّهامه بالخيانة وتسليم نقطتين في عسّال الورد والجبة الى «حزب الله».
وفي هذه المعركة لوحِظ دخول مجموعة لتنظيم الدولة قيل انها لاسترجاع المواقع، لكنهم انسحبوا مع انسحاب «النصرة» وكانت هي الشرارة الاولى لبدء المعارك والاشتباكات بين النصرة وداعش،
وكان آخرها منذ ساعات في وادي الزمرة في جرود عرسال إذ تعرّض تنظيم الدولة لهجوم من مجموعة من جبهة النصرة على مقرّاته في أوّل خرق للهدنة التي اتّفقا عليها منذ ايّام متعهدين بتبادل الأسرى.
وعلمت «الجمهورية» أنّ «داعش» عيَّن أميراً جديداً له في القلمون مكان أبو الوليد المقدسي، هو موفّق أبو السوس الذي كان قائداً لكتائب فرقة الفاروق المستقلة، وهو عمل مع «داعش» سراً لمدة سنتين وبايَعها رسمياً بعد اغتيال أبو عائشة البانياسي القائد السابق للتنظيم).
وبعد الجبة تقدمت القوات في اتجاه رأس المعرة، وكانت العين على جبال الباروح الاستراتيجية وطلعة موسى، الأعلى في المنطقة (2580 متراً عن سطح البحر). وهذه الجبال تكشف فليطا وجرودها ورأس المعرة من الشرق ومرتفعات الخشعات من الغرب. ومن الشمال جرود عرسال بالإضافة الى معبر الفتلة الذي يربط جرود عرسال بجرود رأس المعرة وهو الشريان الاساسي للمسلحين كخط عبور وإمداد في اتجاه عرسال وجرودها.
الطريق فتحت أمام المقاومة والجيش السوري للتقدم شمالاً الى المعبر الرئيس للمسلحين، وهو معبر عرسال – الجراجير عبر وادي حميد، كما سيطرت الوحدات على أربعة معابر رئيسة ترابية تتحرّك فيها آليّات المسلحين. وبالسيطرة على التلال والمرتفعات الحاكمة، أمسكَ «حزب الله» بمفاتيح المنطقة وسيطرَ بالنار على الجرد المتبقّي من القطاع.
تخلّت «النصرة» عن 40 مقرّ تجميع لها وانسحبت الى الشمال الغربي وسقط لها 40 قتيلاً في بدايات المعركة وصولاً الى معركة طلعة موسى. وفي كل المنطقة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها تمّ تدمير 3 غرف عمليات مركزية لها: غرفة عسّال الورد وغرفة الجبة وغرفة عمليات رأس المعرة. أمّا الغرف المركزية المتبقية، فهي غرفة عمليات فليطا وغرفة عمليات الجبهة (وهي الغرفة المركزية التي تدير الغرف الأربع وموجودة في جرود عرسال).
اعتمدت «النصرة» بشكل كبير على مواقعها الامامية، فكانت عبارة عن مواقع دفاعية محصّنة ومجهّزة بشكل كبير لتحمي مناطق التجميع خلفها. كما اعتمدت أسلوب المفخخات والتلغيم والكمائن، وهذا ما جعل التطهير المرحلة الأصعب أمام قوات «حزب الله» بعكس مرحلتي الاقتحام والتثبيت اللتين أنجِزتا بسرعة بفِعل التكتيكات العسكرية الناجمة التي اعتمدت وحدة النار.
تستمر المعارك حتى الآن لتحرير ما تبقّى من جرود فليطا، وقد أحكمت المقاومة سيطرتها على المنطقة المشرفة على أرض الكيشك التابعة لجرود عرسال، وسيطرت بالنار على معابر المسلحين في جرود عرسال وجرود فليطا والجراجير.
امّا اتجاهات القتال فهي من الغرب في اتجاه الشرق 28 كلم 2 طول خط تماس، ومن الجنوب الى الشمال في منطقة جرد الطفيل بمساحة 11 كلم2. ومن الامتداد السوري على طول خط 25 كلم وهو خط متعرّج، والمسلحون موجودون الآن على مساحة 700 الى 800 كلم2.
أمّا «جيش الفتح» فموجود في أجزاء من فليطا وفي منطقة الرهوة وجرود عرسال. فيما ينتشر «داعش» في الجرود الشرقية والشرقية الشمالية (مَعبرا مرطيبة والزمراني) وصولاً الى جرود مشاريع القاع وجرد جوسيه والبريج. وقد تمّ تحرير 56 كلم2 بشكل كامل داخل الاراضي اللبنانية و247 كلم2 داخل الاراضي السورية.
وفي السياق، يؤكّد قائد ميداني في المقاومة لـ«الجمهورية» أنّ تأثير المعركة له بعدان، الاول عسكري واستراتيجي في منطقة كانت تشكّل تهديداً على الخاصرة اللبنانية عند مجموعة بلدات ومدن (يونين- نحلة – بعلبك- وصولاً الى بريتال وحام ومعربون)، وقد أتاحت العملية رفع التهديد الى خط مستوى يونين حيث لا يزال المسلحون جنوب اصبع الطفيل في قرنة ودرة وسبنا.
والبعد الثاني هو خفض مستوى التهديد الذي يلحظ خط دمشق – حمص وكامل منطقة القلمون، خاصرة العاصمة دمشق، وخصوصاً القلمون الغربي الذي يشمل يبرود – النبك قارة، ودير عطية. أمّا معركة تأمين الزبداني – سرغايا – مضايا، فلم تبدأ بعد.
إذاً، معركة القلمون 2 نجحت وقلبت المعادلة. وعلى الرغم من بقاء احتمالية الخطر لأنّ المسلحين لا يزالون في أجزاء كبيرة من جغرافية المنطقة الممتدة من جرود عرسال حتى مشاريع القاع شمال شرق، إلّا انّ الإنجاز الكبير الذي تحقق أثبتَ انّ حزب الله لا يزال في موقع المبادرة والحسم عندما يقرر، كما انّ الجيش السوري الذي شارك في أجزاء كبيرة من العملية، وخصوصاً سلاح المدفعية والطيران الحربي، يحافظ على معنوياته وهو مرتاح لسَير العمليات التي يتجهّز للقيام بالدور الكبير فيها في العمق السوري المُلتفّ حول عاصمته دمشق.