مساران معاكسان يسيّران حركة التأليف الحكومي: المبادرة الرئاسية المترنّحة على رغم دعمها بمقوّيات تجديد وتنشيط بعد الإطاحة بها وبجواد عدرا ممثلاً لـ»اللقاء التشاوري»، مقابل تشجيع رئيس مجلس النواب نبيه بري على تفعيل حكومة تصريف الأعمال، أقلّه لمناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة لسنة 2019 وإقرارها.
بينما كان رئيس الجمهورية ميشال عون يشكو من «خلافات في الخيارات السياسية لا تزال تعرقل تشكيل الحكومة»، في توصيف هو الأول من نوعه للأزمة الحكومية، كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يسأل عن أسباب التردّد الذي حال دون التئام حكومة تصريف الأعمال استثنائياً لإقرار الموازنة.
ومع أنّ الزعيم الدرزي غسل يديه من «تهمة» الاتّكال على أيّ معلومة أو معطيات تسلّلت إلى «آيباده» ودفعته إلى التصفيق لطرح حليفه «أبو مصطفى»، إلّا أنّ تغريدته رفعت من منسوب التشاؤم الذي يشي في أنّ مشروع المعالجة يواجه أفقاً مسدوداً، أقله في المدى المنظور، خصوصاً وأنّ جنبلاط حسم تعطّل الضوء الأخضر أمام الأعتاب الحكومية.
في موازاة ذلك، كان توصيف وزير الداخلية نهاد المشنوق للأزمة في هذه اللحظة العالقة بالذات، سياسياً بامتياز، ملمّحاً إلى نزاعٍ خفيّ في شأن المسألة الرئاسية فاتحاً الباب أمام «العفاريت السياسية» دفعة واحدة.
إلّا أنّ وزير الخارجية جبران باسيل سرعان ما حجب البعد الرئاسي عن ورشة التأليف مؤكداً أنّ «ربط تشكيل الحكومة بالاستحقاق الرئاسي عيب في حقّ ذكاء اللبنانيين»، مؤكّداً أنّ «موضوع الثلث المعطّل مُختلق».
في هذه الأثناء، تفيد مصادر معنية بالتأليف من فريق «8 آذار»، أنّ رئيس الجمهورية أعاد مع بداية السنة الجديدة رفد مبادرته بمزيد من جرعات الدعم حيث كلّف، وللمرة الثانية على التوالي، المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم رعاية الآلية التنفيذية، من خلال استكمال اتصالاته ولقاءاته بحثاً عن صيغة تُرضي جميع الأطراف وتسمح بولادة الحكومة بعد المحاولات الفاشلة.
وحين بلغ البحث بينهما تفاصيل المبادرة، بمعنى هوية الوزير العتيد ووضعيته ووجهة تصويته، كان الاتفاق على أن يكون الوزير ممثلاً حصرياً لـ«اللقاء التشاوري» كما قضت المبادرة في نسختها الأساسية، على أن يكون من حصة رئيس الجمهورية على طريقة استنساخ تجربة حزب «الطاشناق» في تكتل «لبنان القوي»، وبالتالي يشارك الوزير السنيّ في اجتماعات «التكتل».
أما صوته فلم يكن ثمة حاجة للاستفاضة في النقاش حول وجهته، وفق المصادر، طالما أنّ قرارات مجلس الوزراء تُتخذ بالتفاهم، وطالما أنّ الوزير سيكون من صلب الثامن من آذار، وطالما أنّ مرحلة الشغور الرئاسي لها قواعدها.
هكذا، خرج ابراهيم من بعبدا متأبّطاً «ما تبقى من المبادرة» مفترِضاً أنّ الضوء الأخضر الرئاسي سيحصّنها هذه المرة من «عفاريت» اللحظة الأخيرة، حيث كان يُفترض أن يطلب موعداً من رئيس الحكومة سعد الحريري ومن نواب «اللقاء التشاوري» لعرض حصيلة مشاوراته مع رئيس الجمهورية.
وإذ بمسعى المدير العام للأمن العام يتوقف فجأة، كما تقول المصادر نفسها، لمصلحة عودة وزير الخارجية إلى الواجهة مُمسِكاً زمامَ الأمور مجدداً. الأهم من ذلك، أنّ رئيس تكتل «لبنان القوي» لم يكتفِ بطرح بنود المبادرة كما وافق عليها رئيس الجمهورية، لا بل ذهب إلى حدّ تقديم خمسة طروحات أو أفكار جديدة من بينها توسيع الحكومة وهو يعرف مسبقاً أنّ الحريري معارض لطروحاتٍ من هذا النوع… ما أعاد الأمور إلى المربّع الأول.
في المقابل، تقول مصادر مطلعة على موقف باسيل إنه لا يتحمّل أبداً مسؤولية الاختلال الذي أصاب المبادرة التي تمّ التفاهم عليها بالتفاصيل مع «حزب الله»، وتحديداً حول النقطة المتعلقة بتموضع جواد عدرا. ولذا هو عبّر في احدى تغريداته عن رفضه «الكذب»، كونه رفض مسايرة مَن طلب منه القبول بصيغة شكلية تسمح للوزير العتيد بالمشاركة مرة أو مرتين في اجتماعات «اللقاء التشاوري» بعد ولادة الحكومة على أن يلتحق بعدها بتكتل «لبنان القوي» حفاظاً على ماء وجه أعضاء «اللقاء».
وتقول المصادر إنّ النواب الستّة أنفسهم يعرفون جيداً أنّ عقد لقائهم سينفرط بعد ولادة الحكومة ليعود كل منهم إلى «تكتّله الأم»، فيما الوزير السنيّ يُفترض أن تكون له مرجعية واضحة. ولهذا أصرّ باسيل، كما يقول المطلعون على موقفه، على توضيح هذا الإلتباس منذ بداية الطريق، وأن يكون الوزير السنيّ، أيّاً يكن اسمه، عضواً في تكتل «لبنان القوي» منذ لحظة تسميته.
وعليه تؤكد أنّ المبادرة لا تزال حيّة، وهي تقوم أساساً على أن يكون الوزير ضمن حصة رئيس الجمهورية ولا يُقتطع من حصته، ويتركّز البحث راهناً على اسمه ضمن القواعد التي تم ّالتفاهم عليها مسبقاً.
في التفاصيل، يكشف هؤلاء أنّ الحريري استبعد خلال لقائه باسيل طرحين من الخمسة التي وضعها الأخير أمامه وتقوم أساساً على احترام عدالة التمثيل وتبادل التنازلات، وهو أعرب عن عدم ممانعته للطروحات الثلاثة المتبقية، لا بل هو في صدد درسها ومناقشتها. أكثر من ذلك، يكشف المطلعون على موقف باسيل أنه دعم مبادرته بجولتيْ مشاورات مفصلّة بعيدة من الأضواء:
الأولى مع كل القوى السياسية المعنيّة بالتأليف من باب التشاور حول الحقائب غير المحسومة. والثانية مع بعض المرشحين لتسمية أحدهم «رجل الحلّ» للأزمة السنّية، كأسماء بديلة من جواد عدرا بعد احتراق اسمه.
وبالتالي فقد مهّد رئيس «التيار الوطني الحر» الطريق أمام رئيس الحكومة لحسم الخيارات، والذي عليه اختيار أحد العروض الثلاثة التي أعلن استعداده مناقشتها، والتي تصبّ جميعُها في خانة المبادرة الرئاسية وإنما بصيغ متجدّدة لحمايتها من «صيبة العين»، كما حصل في الجولة الأولى.
إذاً، باتت الكرة في ملعب رئيس الحكومة مع العلم أنّه صاحب صلاحية المبادرة في اتّجاه حلّ أزمة التأليف في حُكم موقعه الدستوري، لكنه فضّل وضعيّة التلقّف مع أنّ العقدة سنّية الطابع وهو أوْلى بمعالجة قضايا أبناء طائفته. ترك باسيل أمس الصرح البطريركي في بكركي متّجهاً الى اللقلوق ليمضي عطلة نهاية الأسبوع… منتظراً أن يأتيه الردّ من «بيت الوسط».