قصة جمهورية تبحث عن رئيس ولا تجده
ووقائع حوار سياسي بين الكبار في البلاد
وقف اللبنانيون، بحيرة وذهول، وهم يتابعون طوال الأسبوع الفائت، أخبار التغيير الذي قد يكون حلماً، يراود فريقاً من الناس، أو افتراضات عند بعضهم.
لا أحد يعرف حقيقة ما جرى وما يجري، وحده الرئيس سعد الحريري، عند عودته الثانية الى البلاد، مؤهّل لوضع النقاط فوق حروفها.
طبعاً في لبنان جمهورية معطّلة منذ عامين ونصف عام، عن العمل. ولكن، اذا انهارت الآمال المعلّقة على التفاهمات، فعلى أي تفاهم تبنى الجمهورية؟
والمعركة الآن بين اثنين ينتمون الى الثامن من آذار، وكل منهما يضع النتائج المتوقعة، أو غير المتوقعة في جيبه.
كيف ستنجلي المعركة، وعلى أي حساب وكيف يعالج الناس أمورهم، والأحداث الأمنية البشعة تفاجئهم، وهم يعيشون في جمهورية النفايات.
هل تتبدّل الظروف، وتصبح فجأة لصالح الرابع عشر من آذار، أم يبقى الثنائي المارونيالمؤلف من العماد عون والدكتور سمير جعجع، يطفو على وجه التطورات، أم يخطف البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الموقع الأول في السلطة من الجميع، ويقدّمه هدية الى المجهول الذي لا يتكهن أحد باسمه، حتى الآن.
في طول البلاد وعرضها، تساؤل عن الشخص الثالث، فيما حرارة المعركة مركّزة على اثنين، هما الجنرال وزعيم تيار المردة سليمان فرنجيه.
ويقول العارفون بالأسرار ان الآمال معلّقة على ما سيحمله الرئيس الحريري، بعد عودته من السعودية وتركيا، وبعد زيارته لموسكو.
إلاّ أن الرئيس الحريري لا يزال يتمهل في تظهير موقفه العلني من ترشيح العماد عون، لأن دونه معارضات من أنصاره والأصدقاء وفي مقدمتهم الرئيس فؤاد السنيورة والوزير السابق والنائب عن منطقة الضنية الدكتور أحمد فتفت. وسيكون من الأفضل ان يعلن زعيم المستقبل عن قراره، واذا تعذّر ذلك، فينبغي ألاّ يتأخر ذلك. ويقال ان الاحتفال الشعبي الذي أقيم أمس الأحد، كان مع مقتضيات المرحلة وما تتطلبه من تهدئة وتحصين للاستقرار، من دون التنازل عن الثوابت وفي مقدمها ما حدث بين الرئيس سعد الحريري الذي انتقل من الرياض الى باريس، حيث أجرى محادثات معمّقة حول الانتخابات الرئاسية في لبنان، مع وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت. واللافت للانتباه ان كتلة تيار المستقبل حرصت في بيانها الذي تلاه النائب عمار حوري دعوة صريحة الى انتخاب رئيس للجمهورية، وفق القواعد التي ينص عليها الدستور ومنطق الدولة، وتحت سقف اتفاق الطائف. ويقول المراقبون ان ذكرى ١٣ تشرين الأول وما تلاها دعت وتدعو الى الاقتراع لمرشح أساسي، ولا سيما ان التظاهر على طريق القصر الجمهوري سيرفع من وتيرة الهدنة الرئاسية.
ويعتبر مراقبون حياديون، ان اتفاق الطائف في العام ١٩٨٩، كان ثمرة اصرار الطائفة السنية على تفادي الغبن السياسي الذي كان يسيطر عليه رئيس الجمهورية، وان معركة العام ٢٠١٦، هي معركة ازالة الغبن عن الطائفة الشيعية، والذي يعتبر الرئيس برّي أساسياً في اتيانه، ولا يكون حزب الله بعيداً عنه إلاّ ان تفاهمه مع العماد عون، قد يردم الهوّة الفاصلة بين ٨ و١٤ آذار، لخلق نواة جديدة يلتقي عليها المرشح الثالث.
ويقول المراقبون للمرحلة الراهنة، ان البلاد قد تشهد مؤتمراً تأسيسياً خلال الأشهر المقبلة، من دون الاعلان عن المؤتمر، ولا أحد يريد الانتقال من اتفاق الطائف الى مؤتمر الدوحة، وصولاً الى مؤتمر تأسيسي ليس أوانه الآن، لكنه حتمي، ولا بد منه لكسر حدّة الصراع السنّي – الشيعي.
والصراع الماروني – السنّي أوصل البلاد في حقبة الستينات الى اتفاق الطائف، وهو الذي جعل الرئيس حسين الحسيني يرئس مؤتمر الطائف لهذه الغاية.
ويعتقد هؤلاء المراقبون ان اللقاء الذي جمع في باريس، الرئيس سعد الحريري مع الوزير الفرنسي جان مارك ايرولت، في مقر وزارة الخارجية الفرنسية، بحضور السيد باسيل يارد المستشار الأوروبي للسيد سعد الحريري، تطرّق الى هذه النقطة، لأن هناك إصراراً من الجميع على معالجة الصراع السنّي – الشيعي، والتوصل الى قواعد مشتركة لمخاطر الشغور في رئاسة الجمهورية، كما ان الرئيس الحريري طلب تحرّكاً فرنسياً عاجلاً لدى الدول الصديقة لمساعدة لبنان على مواجهة أعباء النزوح السوري اليه، فوعد وزير الخارجية الفرنسي ببذل كل الجهود الممكنة للاستجابة الى هذا الطلب.
وللمرة الأولى منذ عقود، تبدو السفارات الغربية في لبنان، في موقع المفتقر الى معلومات ديبلوماسية توضح كيفية انتخاب رئيس جمهورية صنع في لبنان، وفي مقدمة الاسئلة عند الغربيين، ان أهل مكّة أدرى بشعابها، وهم بالتالي أدرى من سواهم في ادراك النتائج.
والسؤال: هل من الممكن حصول تسوية بشأن ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية يشكّل انتخابه تسوية رئاسية، وبغض النظر عن الاجابات التي يسمعها السائلون، يكرّرون التأكيد بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية بأسرع وقت ممكن، ووجوب ان يكون القرار لبنانياً.
ويقول ديبلوماسي عريق ان الرئيس سعد الحريري جدّي في خيار لبنانية المرشح، ويبدو انه أبلغ الرئيس بري بهذا التوجه، ووجد حماسة لهذه الفكرة.
ويعيد الرئيس الحسيني الى الأذهان، ما شهده مؤتمر الطائف من صراع بين الرؤساء عبدالله اليافي وصائب سلام ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح مع النواب جورج سعاده، ونصري المعلوف وميشال ساسين، قبل انعقاد مؤتمر الطائف وفي أثنائه وبعده.
وعندما يسأل الرئيس الحسيني عن أسباب اخفائه محاضر الحوارات في مدينة الطائف، يجيب بأن ليس المخفي أعظم من سواه، بل لأن ما حرص على اخفائه مجموعة آراء سياسية حادة، جرت وقائعها بين القوى المسيحية وممثلي الطائفة السنية.
ولذلك، فان المعلومات توحي بأن المؤتمر التأسيسي ليس بديلاً من اتفاق الطائف بل مجموعة توضيحات لبعض المواقف ومجموعة من الحرتقات السياسية، كان اخفاؤها الخيار الأسلم لتوافق اللبنانيين.
واعتقد النائب والوزير السابق نصري المعلوف انه حرص دائماً على ضبّ ما ينبغي ضبّه من حرتقات لا لزوم لها.
وقد لعب النائب والوزير السابق وليد جنبلاط دوراً أساسياً في تقليص بعض المفاهيم السياسية.
ويقلل ديبلوماسي غربي في الوقت نفسه من التأويلات الشائعة لأن معظمها من الماضي السحيق.
رفي رأي الديبلوماسي نفسه، انه للمرة الأولى منذ عقود، لا يبدو العامل الخارجي مؤثراً في الملف الرئاسي اللبناني. ويضيف: هناك فرصة داخلية حقيقية للتوصل الى تسوية رئاسية.
ويبدو ان ثمة مَن يربط الاستحقاق الرئاسي في الولايات المتحدة، بمدى التدخّل في شؤون المنطقة ومنها لبنان. وعليه فان هناك حالة من عدم الاهتمام بملف الرئاسة الأميركية. وفي هذا السياق يرى الديبلوماسي نفسه، ان الوضع الحالي في سوريا، يميل الى اخفاق عدد من دول الغرب، في تحقيق أي مكسب في سوريا، وان الوقت يميل هناك لمصلحة روسيا.
وفي رأي الوزير السابق فؤاد بطرس ان الرئيس فؤاد شهاب كان له دور أساسي في كبح جماح التطرّف، وردم الهوّة بين أفرقاء الصراع، من خلال تركيزه على العيوب التي اعترت النظام في بعض المراحل.
ويقول فؤاد بطرس ان فؤاد شهاب كان يحرص على انعاش المناطق النائية، قبل إنصاف المناطق الآهلة بالسكان.
وفي بعض المناقشات كان فؤاد شهاب يستعين بمفكرين فرنسيين ايماناً منه بأن العيوب في النظام السياسي، هي من أساس التأقلم في الشكاوى من معظم الهنات التي اعترت البلاد في حقبة الستينات.
ولهذا وضع فؤاد شهاب ثقته بالرئيس الياس سركيس، وعهد اليه بمراكز عالية، أبرزها الحرص على تعيينه حاكماً للبنك المركزي، حفاظاً منه على الليرة اللبنانية، وايماناً منه بأن الياس سركيس هو المنقذ في أيام الحشرة.
في العام ١٩٥٢، التقى في مصيف شتورة الرئيس السوري ناظم القدسي، عند ظريف لبنان نجيب حنكش، وقال له بحضور وجوه لبنانية بارزة ان الرئيس أديب الشيشكلي، عندما وصل الى موقع رئاسة الجمهورية السورية، جاء من يسأله عمّن ينبغي لسوريا أن تؤيّد لرئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس بشارة الخوري، وفوراً استدعى الشيشكلي رئيس أركان الجيش السوري الجنرال شقير، والد النائب السابق أيمن شقير، وسأله عمّن يفضّل للرئاسة اللبنانية حميد فرنجيه أم كميل شمعون، فردّ الجنرال شقير بأن كميل شمعون كان يلقّب ب فتى العروبة الأغرّ نظراً لماضيه السياسي في تأييد القضايا العربية. وعلى الفور قال الرئيس الشيشكلي ان سوريا تسير بشمعون لرئاسة الجمهورية اللبنانية.
وهذا ما جعل للنظام السوري منذ تلك الحادثة دورا أساسيا في تسمية رئيس الجمهورية اللبنانية.
منذ العام ١٩٥٨، بدأ الدور الأميركي يشقّ طريقه نحو لبنان، خصوصاً عند نشوب الأعمال المسلحة في عصر المارد العربي جمال عبدالناصر، وبروز اسم اللواء فؤاد شهاب، بين المرشحين للرئاسة.
وعندما اقترب موعد الانتخابات، من دون ان يرشح أحد نفسه في وجه الجنرال، قرر العميد ريمون اده ترشيح نفسه، لئلا يقال ان رئيس لبنان عيّنته مدفعية الأسطول السادس الأميركي الذي كان مرابطاً في مرفأ بيروت.
وقبل أيام قليلة، من موعد الانتخابات، كان العميد اده برفقة السيد روبرت مورفي والسفير الأميركي السيد ماكنتوك في زيارة مغارة أفقا. وبعد تمضية النهار في الحديث عن أزمة لبنان، والغليان في الشرق الأوسط، وصل الى المكان موفد أميركي يحمل برقية عاجلة الى السيد مورفي، الذي فتح البرقية وهمس في أذن السفير ماكنتوك: مبروك وافق عبدالناصر على اختيار فؤاد شهاب.
وأردف: اتفقنا مع الرئيس عبدالناصر على ان يكون شهاب هو الرئيس.
عندئذ، ابتسم العميد اده وقال: سأرشح نفسي ضد فؤاد شهاب.
وهنا سأله مورفي: أنت؟
وأجابه اده: نعم أنا.
سأله مورفي ثانية: لماذا لم تخبرنا من قبل وعقب العميد اده: لأنني كنت أعتقد ان انتخاب رئيس جمهورية لبنان سيتم بارادتنا، وسيكون انتخاباً حراً، وان المجلس النيابي هو الذي سيختار رئيس الجمهورية.
ويمضي العميد اده في روايته لأصدقائه: لهذا السبب ترشحت ضد فؤاد شهاب، اضافة الى انه رجل عسكري، ووجوده على رأس الدولة، يجعلني أتخوّف على نظامنا الديمقراطي. وهذا يعني انه سيكون جوّه عسكرياً وسيكون حكمه عسكرياً.
وعلى هامش الزيارة التي قام بها السيد مورفي مع العميد اده والسفير الأميركي الى أفقا، لعلّه من الطريف الاشارة الى الحادث الذي تعرّض له هذا الموكب.
ويقول مورفي: بين المسيحيين المرشحين للرئاسة، كان يتردد اسم أحد النواب، وهو ريمون اده. وقد سررت عندما دعاني العميد اده يوماً الى منطقة في جبيل، ذهبنا الى المنطقة، وبعد محادثات مع الزعماء المحليين، وتناول وجبة غداء، زرنا قريتين في المنطقة حيث حيّا أهاليها العميد اده بطلقات نارية ابتهاجاً لما يكنّون له من محبّة.
ويتابع مورفي: ذهبنا بعد ذلك الى نهر أدونيس، مقر الاحتفالات الدينية عبر العصور، وكان يتقدّم موكبنا الدراجات النارية، مع عدد من الحرّاس والجنود، ولكن يبدو ان محازباً غير نظامي، يحمل بندقية، وتتدلى من احدى كتفيه أحزمة الخرطوش، فلم تعجبه نظرات الرجال في لباسهم الرسمي، فظلّ عابساً ويعتريه الشكّ، فيما كان أصحابه على الضفة الأخرى من النهر، يراقبون ما يجري، وقد ظنّوا ان صديقهم ألقي القبض عليه، فراحوا يطلقون النار عليه.
وحتى تلك اللحظة، كانت نزهتنا على خير، كما يقول مورفي، لكن نسينا الاحتفال عندما تدافعنا داخل السيارة التي انطلقت بسرعة جنونية في طريق العودة. إلاّ أن العميد اده التقط أنفاسه، واعاد هدوءه قائلا للجميع: لم يطلقوا علينا النار مباشرة، انهم من الرماة المهرّة، ولو كانوا جادّين، لكنّا أصبحنا كلنا في عداد الأموات. وكان العميد اده قد وضع اللوم على السفير ماكنتوك، لأنه أصرّ على فكرة مواكبة السيارة بعدد من الحرّاس.
ويروي في هذا المجال، انه في ١١ أيار ١٩٥٨، جرى احراق المكتبة الأميركية في طرابلس.
وتردد ان السفير ماكنتوك طلب الاجتماع الى زعماء المعارضة، والى أعضاء القوة الثالثة التي كانت تعارض التجديد للرئيس شمعون، فور انتهاء ولايته.
ويبدو ان السفير الأميركي ماكنتوك، توجه بكلامه الى الحاضرين وقال: انني أقول لكم بصراحة، إن خلافكم مع كميل شمعون هو من شؤونكم الداخلية، ونحن لا نتدخّل في السياسة الداخلية اللبنانية، إذ بينكم وبين الرئيس شمعون لا تلتزم الولايات المتحدة بموقف معيّن، لكن نحن لا نريد ان تثوروا على أميركا عبر ثورتكم على الرئيس شمعون.
وكان الرئيس رشيد كرامي قد قدم الرئيس صائب سلام على انه رئيس الوزراء العتيد بعد الثورة.
ويقال أن القوة الثالثة تألفت في لبنان، بالتفاهم الضمني مع اللواء فؤاد شهاب.
وانطلقت مهمة القوة الثالثة من النظرة القائلة بعدم تجديد ولاية الرئيس شمعون.
وهكذا وضعت نهاية سعيدة ل ثورة غير سعيدة، توافق فريق على أنها فتنة، وتوافق آخرون على انها ثورة.