الصفحة الأخيرة من ملف المعتقلين تُكتب
إنها صبيحة يوم الأحد، 8 كانون الأول 2024. احفظوا هذا التاريخ جيداً. إنه اليوم الذي تحطّمت فيه التماثيل والأوثان التي حكمت لبناننا وفق قاعدة: “تعوا وروحوا” متجاوزة كل أشكال وأنواع حقوق الإنسان. شبابٌ وشابات سُحبوا من بيوتهم إلى أقبية “جهنم” السورية. قيادات لبنانية قُتلت بأيدٍ باردة. لبنان كان لعبتهم وكان “الماردون” في لبنان في المرصاد. كانت لسوريا الأسد أصنامها في لبنان تُمعن في إذلال أحرار لبنان وكل من ينادي: حرية سيادة واستقلال. كانت لسوريا اليد الطولى في قتلنا وقمعنا بأسهم مسننة. ووجهت قوات سوريا الأسد في الأشرفية، أشرفية البشير، وفي زحلة، زحلة البطولة، وعين الرمانة الصمود… البطريرك البطل مار نصرالله بطرس صفير قال كلمته. المطارنة أصدروا بياناتهم الشهيرة. اللبنانيون نزلوا سيولاً إلى ساحة الشهداء. انسحبت سوريا في 26 نيسان 2005. انتصر اللبنانيون على نظام قاتل و… وبقيت سوريا تحاول اختراق لبنان “بأصنامِها” وبقي ملف المعتقلين في لبنان معلّقاً. اليوم انطوت صفحة الأسد في سوريا. فماذا عن 622 لبنانياً وجودهم هناك موثق بالحبر الأحمر؟ ماذا عن بطرس خوند وسمير كساب ومئات مئات؟ وماذا عن سياسيين استمروا حتى البارحة يتلوّنون ويراوغون- ويحاولون الاستمرار- في هذا الملف؟
آه على أمهات المعتقلين في السجون السورية. آه على الأمهات الثكالى اللواتي نمنَ في خيمة المعتقلين في البرد وفي الحرّ ومتنَ على الطرقات وهنّ يصرخنَ: “بدنا ولادنا”. ورحم الله غازي عاد، حامل صليب المعتقلين في السجون السورية، الذي “فلّ” من هذه الدنيا صبيحة 16 تشرين الثاني 2016، ومع رحيله همدت آخر نبضات الأمهات اللواتي كنّ يستمددن الأمل منه. يا اللّه كم كانت فاتورة عمر هؤلاء باهظة، في حين كانت دولتنا، أو ما تسمى دولتنا- ونحن منها براء- تتفرّج فاركة يديها من دم الصديق.
فُتحت السجون؟ “لا، لم تفتح بعد كل السجون”. هذا جواب علي أبو دهن- رئيس جمعية المعتقلين في السجون السورية الذي ذاق العلقم إبّان سجنه هناك وبلع الفأرة ورشف كل “قرف النظام” وخرج ينادي: يا جماعة، يا أهل الخير، لدينا في السجون السورية بعد 622 معتقلاً. لم يسمعوه. أداروا- كما دائماً- الآذان الصمّاء. وظلوا عبيداً، مأمورين، لنظامٍ أسود.
فلنهلّل. انطوى عهد الأسد. هرب بشار الذي أمعن قهراً بالشعبين السوري واللبناني. هوت تماثيل حافظ وبشار “ويلعن عرضن- بحسب السوريين الأحرار- شو في صور وتماثيل”. كان زمناً اختلّت فيه كلّ المقاييس، صنع فيها الشعب الراكد على يأس تماثيل لهما، على قياس جرائمهما، لا على قياس عظمتهما. “خلصت أيامن”. واحد في القبر وثان في المجهول. لكن، في زحمة كل التطوّرات، نعود ونسأل: ماذا عن إخواننا المعتقلين في السجون السورية؟
لنسأل أولاً رئيس جمعية المعتقلين في سوريا؟ هل لديكم أمل بعودة من مرّ زمن طويل على اختفائهم في أقبية الأسد؟ يجيب “عملياً، نحن في مرحلة انتظار. ثمة فوضى عارمة حالياً في سوريا وهذا طبيعي. الثوار فتحوا سجوناً وأخرجوا المساجين السياسيين. اللبنانيون، جميع اللبنانيين، لم يخرجوا بعد لأن النظام المنتهي أوقفهم وفق محاكمات صورية أو بلا محاكمات”. لكن، ثمة أسماء ووجوه أعلن عن خروج أصحابها: كلود ليشع الخوري، مفيد حبشي، طوني القزح، توفيق سعادة، رياض جعجع، نبيه اسحاق، مسعود رحمة، طانيوس شحادة رحمة… شبابٌ- كانوا شباباً- وتحرروا. بلا أسنان، بلا تعابير، بوجوه شاحبة، مرتبكة، لا تعرف ماذا حدث وماذا يحدث. فما صحّة ما يحدث؟ يجيب أبو دهن “اتصلت بأهالي هؤلاء وعلمت أنهم أرسلوا لوائح بأسماء أولادهم. نحن ننتظر ساعات، وربما سننتظر يوماً أو يومين بعد، قبل تبيان المصير”.
ما يحدث مثل الحلم. هو سردابٌ طويل طويل انكشفت نهاياته. نعم، في السجون السورية، الكثير الكثير من المعتقلين اللبنانيين الذين لم تسأل عنهم دولتهم ولا “العهد القوي” معتقدين أنه يكفي أن يأخذوا رضى نظام أسود اعتبروا بقاءه أبدياً سرمدياً. في الشام وحدها أكثر من مئة سجن. هناك سجن تحت “سبع بحيرات”- كما قال أبو دهن- هناك سجن كبير في كفرسوسة تحت مبنى إدارة أمن الدولة، وسجن آخر في مبنى الأيتام/ وسجن في باب المصلى يضم أهم المعتقلين، وهناك سجن في الصبورة، وهناك سجون تحت مباني الإدارة في مطار المزة، وهناك سجن في جبل قاسيون… والسجون تكاد لا تنتهي. لم يبالِ النظام الأسود بأمرٍ كما اهتم بتشييد سجونه الظاهرة والخفية.
هذا ما فعله عون
لا، ميشال عون كنت على خطأ. أنت قلت في 2015 “لا معتقلين لنا في السجون السورية”. لم تقل الحقيقة. لم تبالِ بالتقصي عن كل الحقيقة. ها هو السجين مروان نوح قد حُرر ووصل إلى عرسال. الاحتفالات تجري في مناطق كثيرة في بيروت والمحافظات. وبشير، الشهيد بشير، وكأنه يبتسم اليوم. هو يبتسم وصدى عبارات حفظناها له: “نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه، نحن صليبه وحريته، نحن نوره وناره” تصدح من جديد. نعم، ما بيصحّ إلا الصحيح.
أولاد شكا فرحون. ابن البلدة سهيل الحموي حرّ بعد 33 عاماً. السجينات أخرجن. لا معتقلات لبنانيات على اللوائح المثبتة لدى جمعية المعتقلين في لبنان. لوائح بأسماء المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية وزّعت بكثافة. نقرأ في الأسماء. لكلِ اسم حكاية عذاب يفترض أن تروى لمن كُتب لهم العمر. أنفاسنا تتلاحق بسرعة. المعتقلون كانوا أنفاساً سعى كثيرون لإخمادها وها قد عادت قوية. خرج- وسيخرج كثيرون- وهم يهرولون هاتفين: يا إمي أنا جايي. كثيرون لن يروا أمهاتهم. رحلنَ إلى العلياء، إلى السماء الحرّة، وهنّ يذرفنَ الدموع الساخنة.
ماذا عن بطرس خوند؟ ابنته رنا تكرر “يا ربّ يا ربّ أملنا ورجاؤنا ورح تبقى… وانشالله يا بيي تكون بعدك صامد”. قولوا الله. جورج صعب، جارنا، تنتظره عائلته. تُرى ما زال حياً؟ أين الدولة من كل هذا؟ هل تريد أن تستمر صمّاء بكماء عمياء؟ أين السفير السوري في لبنان؟ اسألوه ثم اطردوه. سائلوا وزارة الخارجية في لبنان التي امتنعت عن التصويت على مشروع القرار الخاص بإنشاء آلية جديدة للمفقودين في سوريا بحجة “أنها تنأى بالنفس عن المسار الذي يمكن أن ينتهجه هذا القرار مما لا يخدم القضية الأساسية”. يومها (في حزيران 2023) صوّتت 83 دولة مع إنشاء مؤسسة إنسانية مستقلة تركّز على حقّ الضحايا وأهاليهم في معرفة الحقيقة عن أحبائهم بدعم من الأمم المتحدة أما لبنان فامتنع. وزير خارجية لبنان أنت متهم بالتعامل مع نظام أسود على إخفاء مصير لبنانيين كثيرين.
موسى الصدر
ماذا لو عاد موسى الصدر (مواليد 1928)؟ عمره اليوم 96 عاماً. ثمة سجناء كانوا في سجن حلب أكدوا أنه نقل من سجن حلب إلى حماه إلى دمشق…). كان هناك. وهنا، جماعة سوريا في لبنان يرفعون اسمه ورايته. يا الله كم عشنا كذباً وتلفيقاً ومواربة.
زغاريد النسوة كثيرة. والكلّ، الكلّ الكلّ، يهتفون: يلعن روحك يا حافظ ويا بشار. ماذا بعد نظام الأسد؟ دعونا الآن نبحث عن شبابنا الذين باتوا كهولاً. اتركونا نفرح في اللحظة. فكل من سيأتون بعد لن يكونوا أكثر فظاعة ممن انتهوا. بلاد البترون نشرت صورة ابنها: ساسين يوسف مرشاق. الرجاء ممن يعرف عنه شيئاً. جرجس روكز مراد من شاتين (البترون) مواليد 1939 أسر عند الحاجز السوري في المكلس العام 1978. الرجاء ممن يراه أو يعرف شيئاً. قزحيا فريد شهوان من العلالي آخر مرة رأته زوجته كانت العام 1980… فهل سيعود؟ يا الله ما هذا القهر ومسيرة العذاب؟ كل الجروح فُتحت من جديد. القلوب النازفة عادت تخفق، التي طالما أصحابها طالبوا: بدنا ولادنا أحياء أو أمواتاً. لكن، في ظلّ كل هذه المشهدية التي ارتسمت في ساعات عامَ الأسى الكبير من “دولة” فجواء ساندت الظالم على أبنائها وأبت أن تضخّ ولو إبرة مورفين في ملفٍ حزين.
فلنفرح اليوم. الأولاد- ولو شاخوا- سيعودون. الآباء- ولو لن يتعرّف عليهم أبناؤهم وبناتهم بسهولة- عادوا أو سيعودون. وماذا بعد؟ ننظر في وجه ابن دير الأحمر كلود حنا ليشع الخوري كثيراً. ننظر في وجهه وعينيه. هو فقد واحدة من العينين. ويبدو فقد الأمل. اليوم خرج فمن يقاضي على كل الأسى؟ سوريا أو أصنام سوريا في لبنان؟ سيعود اليوم أو غداً فهل سيجد والدته حيّة في انتظاره لتمسح عن سحنته كل هذا القهر؟
الربح والخسارة
نسأل أحد الثوار السوريين ممن يعيشون في فرنسا: هل تعتقد أن المعتقلين اللبنانيين الذين سيعودون ليسوا بقليلين؟ يجيبنا بسؤال، ماذا يربح النظام السوري من إبقاء المعتقلين اللبنانيين كل هذا الوقت في أقبيته؟ يطرح السؤال ويجيب نفسه: “اتّضح لنا أن لا مصلحة لهذا النظام بالاحتفاظ بهؤلاء المعتقلين، فهو على وئام مع النظام اللبناني، في حين أن الهدف من الإبقاء على ستة معتقلين أميركيين هو أن يساوم دونالد ترامب، أما المعتقلون اللبنانيون فلا يقدّمون أو يؤخّرون في روزنامة حكومتهم ودولتهم”. جوابه يزيدنا قهراً. فلبنان- بمن تولّوا زمامه- الخاتم في الإصبع السوري هو المسؤول الأول عن كل مصاب اللبنانيين.
مرّت الأيام والسنون. انتهت الحرب في لبنان منذ ثلاثين عاماً. غادر العسكر السوري بلادنا. طُرد. وقيل يومها إن صفحة طويت وصفحة تفتح. صدّق الأهالي. وغفلوا أن هناك من يلعب معهم، في ملف إنساني بهذا الحجم، “لعبة الحمار” وفيها يا بموت الحمار يا الملك يا لبنان. المعتقلون في سجون سوريا كانوا يعدّون في البداية الساعات ثم الأيام ثم الأسابيع، ثم صاروا يعدّون الأشهر وباتوا بعدها يحسبون اعتقالهم في “جهنم” بالمونديال… ينتظرون موعد المونديال كل أربع سنوات ليُقدروا عدد سنوات الاعتقال. هم حاولوا كثيراً الصمود. صمد بعضهم وننتظرهم. مات بعضهم وننتظر رفاتهم؟ ولعبة الحمار والملك ولبنان انتهت. وهم لبنان أكثر من كلّ الآخرين.
نضع نقطة، لكن الانتظار مستمرّ. وغداً يوم آخر بلا بشار. انتهى الأسد (بالاسم) وننتظر الأسود الذين “سيخرجون من الأسر الطويل شمّ الأنوف كما تخرج الأسود من غابها”.
القصير قلعة «حزب الله» السورية سقطت بلا مقاومة
مصدر مقرب من الحزب: إذا كان ما حصل يمثل مصلحة الشعب السوري فهذا خياره
بيروت: يوسف دياب
بينما أعلنت فصائل المعارضة السورية دخولها مدينة حمص والسيطرة عليها، سقطت مدينة القصير الواقعة في الريف الغربي لمحافظة حمص، وانسحبت القوات النظامية منها، تاركة الأرض لمقاتلي «حزب الله» الذين آثروا بدورهم الانسحاب إلى لبنان.
انتظار أبناء القصير دام 11 عاماً ونيّف، قبل عودتهم إلى مدينتهم التي تغيّرت معالمها، وإلى قراهم التي تم تجريفها. وأفاد مصدر في المعارضة السورية، بأن القصير «لم تشهد معركة عسكرية ما بين الفصائل السورية والميليشيات التي كانت تحتلها (حزب الله) بل كانت أمام حالة استسلام»، وأوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الذين قدموا من حمص باتجاه القصير، هم من مقاتلي القصير»، مؤكداً أن «عملية السيطرة على القصير لم تستغرق أكثر من ساعتين، فلم تشهد مواجهات تذكر، لأن أكثرية مقاتلي (حزب الله) الذين كانوا فيها وفي القرى الواقعة في الريف الغربي والجنوبي للمدينة إما فرّوا إلى لبنان من خلال معبر مطربا، قرب منطقة حوش السيّد علي المتاخم لمنطقة البقاع اللبناني، وإما ألقوا سلاحهم واستسلموا للثوار».
ولم يعرف مصير آلاف المقاتلين من «حزب الله» الذين كانوا متحصنين في القصير وريفها، ويتخذون منها ظهيراً لدعم الحزب في لبنان وشريان إمداده بالسلاح، وتناقل ناشطون مقاطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتضمّن تسجيلات لمقاتلي الحزب يتهمون جيش النظام السوري بأنه «غدر بهم وتركهم في أرض المعركة».
وكان أمين عام «حزب الله»، نعيم قاسم، أعلن في خطابه الأخير، الجمعة، أن الحزب لن يسمح بـ«سقوط سوريا بيد الجماعات المسلّحة مجدداً، وأنه مستعدّ لدعمها والدفاع عنها»، وكشف المصدر في المعارضة السورية عن أن «مئات من مقاتلي (حزب الله) انتقلوا في الساعات الماضية من البقاع اللبناني، وتحديداً من خلال معابر غير شرعية ما بين منطقتي القاع والهرمل، إلى القصير، وكانوا يمنون النفس بالدفاع عن القصير التي كانت تشكّل معقلاً للحزب، إلّا أنهم عادوا وفرّوا إلى لبنان أثناء وصول المقاتلين إلى مداخل القصير من الشرق والشمال»، مشدداً على أن «نفوذ (حزب الله) وكل الميليشيات الإيرانية انتهت، وأن مقاتلي الثورة سيطروا على كل ريف القصير الغربي والشمالي وصولاً إلى الحدود اللبنانية».
الضربة الإسرائيلية التي استهدفت «حزب الله» في القصير على الحدود اللبنانية السورية (المرصد السوري)
وشهدت حدود لبنان الشمالية مع سوريا، تدفق الآلاف من النازحين السوريين من أبناء حمص والقصير، وبدأوا مع ساعات الفجر الأولى بالانتقال إلى مناطقهم في الداخل السوري لتفقّد أرزاقهم. وأكدت المصادر لـ«الشرق الأوسط» أن «قرى حدودية في عكار تشهد حركة نزوح معاكسة إلى ريف القصير»، وقالت إن «حركة الانتقال من لبنان إلى سوريا اقتصرت على الرجال والشباب، وغالبيتهم عبروا عبر دراجات نارية، وذلك لتفقّد ممتلكاتهم والتثبّت مما إذا كانت منازلهم لا تزال موجودة وصالحة للسكن، على أن تشهد الأيام المقبلة عودة العائلات».
إلى ذلك، أوضح مصدر مقرّب من «حزب الله» أن «الحزب قاتل في سوريا إلى جانب الدولة السورية والشعب السوري»، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كان ما حصل يمثل مصلحة الشعب السوري فهذا خياره، والحزب لم يكن يوماً في حالة حرب أو عداء مع السوريين، بل بمواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية التي نكلت بالشعب السوري». وتمنّى أن «تكون سوريا بخير ولا تقع في قلب الصراع مجدداً، وألّا تمزقها الصراعات الداخلية ومشاريع الفتنة».