IMLebanon

622 لبنانياً بلا أوكسيجين في المعتقلات السورية

 

 

كل شيء “بالمقلوب”. وكل الدروب تقودنا إلى المجهول. وكأننا نعيش كذبة بعد كذبة بعد كذبة ونظل ننتظر ما هو أعظم! وهل هناك أعظم من أن يكون عدد الأمهات اللواتي توفين وهنّ ينتظرن عودة إبن أو زوج أو شقيق على قارعة الطريق قد أصبح أكثر من عدد الأحياء منهنّ؟ واحدة ماتت بالقلب، وثانية دهستها سيارة، وثالثة ماتت حسرة، ورابعة ماتت وعيناها جاحظتان، تبحثان بين نجوم السماء، عن فلذة كبد… وهناك عشرات ساعدهنّ الألزهايمر فنسين أنهنّ ولدن هنا وما زلن ينتظرن وما أقساه انتظاراً!

 

 

لا، لا تراهنوا على أن أهالي المفقودين والمعتقلين في السجون السورية سيعتادون ثم ينسون ثم يصبحون بخير. فهؤلاء ليسوا أبداً بخير. لا في كانون ولا في شباط ولا في آب ولا طبعاً في نيسان وكل أشهر السنة. فها قد قام المسيح من الموت وها هي ذكرى الحرب اللبنانية تقترب في نيسان وها هي وزارة العدل اللبنانية و”الدولة” تراجعان في قضية جورج عبدالله متجاهلة وجود 622 معتقلاً لبنانياً في السجون السورية متروكين تحت رحمة نظام لا يرحم شعبه فكيف يرحم شعبنا.

 

المحامي والحقوقي والرائد في حقوق الإنسان النائب السابق غسان مخيبر يفصل كلياً بين قضيتي جورج عبدالله والمعتقلين في السجون السورية. فعبدالله معتقل في فرنسا التي تعترف بوجوده في حين يعتقل اللبنانيون في سوريا في دولة مقفلة، في مسألة حقوق الإنسان،على نفسها ولا تعترف بهم. لذا “حالتهم حالة” لكن لن نيأس، بحسب مخيبر، من المطالبة بهم قبلاً واليوم وغداً.

 

فلنبحث عنهم. ولنظل نتكلم عنهم. فهم الأوكسيجين الحقيقي لكثير من الأمهات والأهالي واللبنانيين الذين لم يناموا ملء جفونهم منذ عقود وهم عالمون، مدركون، أنهم في تلك الأقبية الخالية من كل منطوق إنساني. فماذا عنهم؟ وماذا عن “نشاط” الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً التي شكّلها مجلس وزراء لبنان، بعد أقل من 24 ساعة على بدء تنفيذ قانون قيصر، وأكثر من 19 شهراً على إقرار مجلس النواب قانون المفقودين والمخفيين قسراً؟ ماذا بعد 10 أشهر على تشكيل تلك الهيئة؟

 

غسان مخيبر يجزم “أن المطالبة بهؤلاء يفترض أن تبقى مستمرة لمعرفة مصير جميع المعتقلين” ويشرح “تأسست الهيئة الوطنية التي يفترض أن تتابع هذه القضية لكن المشكلة تكمن في أن ظروف عملها غير مكتملة. فلا وجود لحدّ أدنى من المخصصات لها ولا مركز لها. والتحدي الآن في من سيحمل الملف الى خواتيمه طالما أن ظروف عمل الهيئة ناقصة، علماً أن من مهامها متابعته مع الضغط على كل السلطات الرسمية وبينها وزارة الخارجية. وكلنا نعلم أن النظام في سوريا يرفض التعاطي بإيجابية مع هذا الملف. لذا، علينا أن ننتظر، على ما يبدو، إما تغيير النظام أو تغيير ذهنية تعاطي هذا النظام وأدائه كي نتمكن من الحصول على معلومات دقيقة وتتبع المفقودين والمعتقلين وجلاء مصيرهم وإعادة الأحياء أو الرفات” ويستطرد بالقول “هذا الملف يحتاج الى جهد إستثنائي والى ظروف داخلية وإقليمية ودولية غير متوافرة”.

 

الظروف الداخلية، في دولة لبنانية رازحة تحت وابل من الفساد والفشل، ولم توفر أي مخصصات الى هيئة يفترض أن تعمل على هذا الملف، مفقودة. والظروف الإقليمية من خلال نظام سوري “هلقد مقفل على نفسه” مفقودة. والظروف الدولية لا تجعل من هذا الملف أولوية. والحلّ؟ يجيب مخيبر “علينا ألاّ نقطع الأمل ولو بعد حين، مع العلم اننا ندرك تماماً أنه كلما طال الزمن بهذا الملف اكثر كلما أصبح أصعب. لكن، ليتأكد الأهالي، أن هناك وقائع تؤكد وجود أولادهم، وعلى الدولة أن تواجه النظام السوري بأدلة بعضها متوافر. لكن ما نحتاج إليه تكراراً هو تغيير في ذهنية النظام السوري تجاه هذا الملف أو تغيير هذا النظام”.

 

في نيسان هذا، على اللبنانيين، أهالي المعتقلين، أن ينتظروا بعد. وهذا أمر جدّ صعب عليهم لكنهم سينتظرون. فلا توجد أم في العالم تتخلى عن وليدها حتى ولو مضى على إعتقاله، من نظام لا قلب له، عقود. اللهمّ ألا يأتي يوم تكون فيه كل الأمهات قد أصبحن في دنيا الحقّ.

 

“بدنا ياهم”. العبارة لا تزال ترتفع اليوم. فما رأي الخبيرة في العدالة الإنتقالية وأستاذة العلوم السياسية وعضو جمعية “لنعمل معاً من أجل المفقودين” التي عينت قبل عشرة أشهر عضواً في “الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً” كارمن أبو جودة؟ تجيب “صحيح أنه تمّ تعيين عشرة أعضاء في هذه الهيئة أنا واحدة منهم غير أن اثنين منهم إعتذرا واحد لسبب صحي وثان لوجوده خارج البلاد وبالتالي لم تستكمل هذه الهيئة بعد. ومفروض تعيين بديل عن الإثنين. لكن، الحكومة منذ ذاك الحين مستقيلة تُصرّف الأعمال، كما انه لا يوجد مقرّ للهيئة . واجتماعاتنا الأولى عقدناها في بيت المحامي. وتشرح: مهمة الهيئة التحقيق وتوضيح مصير المفقودين والمعتقلين في حين أن النظام السوري ينكر، جملة وتفصيلاً، وجود هؤلاء لديه، وواجب الدولة اللبنانية الاستمرار في السؤال عنهم. أما نحن، كهيئة، فلم يعطونا الأدوات اللازمة لنعمل ولا حتى الحدّ الأدنى من هذه الأدوات لتحضير المعلومات والشهود. ونحن نعلم مدى الظلم الذي يلحق من ذلك بهؤلاء وبأهاليهم فليس أكثر ظلامة من “الفقدان الملتبس” حيث لا يعرف الأهالي من هو حيّ ومن هو ميت. حتى ولو كانوا يملكون معلومات عن أبنائهم المفقودين والمعتقلين غير أننا نحتاج الى أدلة حسية دقيقة لنمضي بها. وما دام الأمر معلقاً ولا أجوبة شافية للأهالي ومصارحة، فهذا معناه أن مسار السلام الحقيقي منقوص.

 

فليطمئن الأهالي. هذا الملف لن يموت، بدليل ما حصل في كل دول العالم التي عاشت فصوله. فها هي إسبانيا لا تزال حتى هذه اللحظة تطالب من خلال الأحفاد بمعرفة مصير الأهالي والأجداد. هذا نضال شعبي. والمعتقلون والمفقودون نضال لا يبوخ تحت أي ستار. هذا نضالٌ سيتتابع إذا أردنا بالفعل لا بمجرد القول الإنتقال الى دولة قانون. فلا يمكن الكلام، بحسب أبو جودة “عن مصالحة إلا إذا انتقلنا الى مسار صحيح يتضمن إجابات واضحة صريحة عن كل هؤلاء. فحقّ المعرفة مكرّس”.

 

ما رأي رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية علي أبو دهن؟ هو خضع للتوّ لعملية في القلب بعدما أمضى ثلاث عشرة سنة بين فرع المنطقة في الشام وبعده فرع فلسطين ثم فرع التحقيق العسكري يليه سجن تدمر ثم سجن صيدنايا وكان اسمه في سجن “الشقيقة” رقم 13. “وينن” رفاقه اليوم؟ هل نسيناهم؟ هل نسوهم في ظل انهيار الدولة وكل الفساد وكورونا؟ يجيب “الملف مجمد بنسبة 100 في المئة. حتى ملف التعويضات الذي تقدمنا به من أجل إنصاف من خرجوا وضعوه في الدرج. والدولة لا تولي المفقودين والمعتقلين أي عناية وهذا انتقاص من حقوق الإنسان. ويستطرد: يوم صدر قانون قيصر تواصلنا مع نزار زكا وعمر الشغري واعتبرنا أن حلاً سيظهر لكل المعتقلين في الأقبية السورية من لبنانيين وسوريين في ظل كل المعطيات عن الأشخاص هناك وأسلوب العذاب الذي يتعرضون له. أملنا خيراً لكن لم يحصل شيء ولم نتقدم قيد أنملة. ولا أحد يمكنه اليوم أن يقول عن 622 معتقلاً لبنانياً هناك “طيبين” أو “ميتين” لكننا نريدهم أحياء كانوا أو رفاتاً. مشكلتنا الأساسية أن الدولة اللبنانية “رفيقة” النظام السوري. وحتى السيد حسن نصرالله قال: سألنا بشار الأسد عنهم وقال ليس لدينا أحد. وكأن الموضوع يفترض أن ينتهي هنا. يتابع: في 2011 خرج من سوريا لبناني كان معتقلاً من آل شمعون وفي غضون يومين غادر الى السويد. ويومها قال لي غازي عاد الذي التقاه: لم أرَ من هو أكثر جبناً من هذا الرجل. خاف فغادر. وفي 2017 أعادوا لنا الدركي قيس منذر جثة بسبب ضربة على الرأس. مشكلتنا أن دولتنا مع النظام السوري”.

 

لم تتمثل جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية في الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً لكن لو فعلوا ماذا كان سيضيف؟ ماذا كان سيُغير؟ يجيب أبو دهن: “لو نحن في اللجنة لكنا طلبنا من قائد الجيش فتح كل الدفاتر ومن وزارة العدل فتح كل المراسلات مع السوريين في سبيل الوصول الى الحقيقة. ويستطرد بالقول: عشر أمهات توفين وهن ينتظرن أولادهن المعتقلين. نتمنى ان ينتهي هذا الملف قبل ان تغادر كل امهات المعتقلين”.

 

ليس أمامنا إلا التمني؟ هل نحن ضعفاء الى هذا الحدّ أم هم، من بيدهم القرار، أنجاسٌ الى هذا الحدّ؟ أحد الخارجين من أقبية الإعتقال السورية يغمض عينيه ثم يعود ويفتحهما وينظر الى السماء ويقول: “لا شيء يموت ووراءه مطالب. يكفي أن نتابع الملف ونأبى أن نسكت عنه ليظلّ مفتوحاً غصباً عن الجميع. ويتابع: إليكم هذه المعلومة بطرس خوند كان في سجن عدرا المدني، فرع الأمن السياسي، واسم العقيد الذي كان يسيطر على الفرع كمال ناصيف، ونقل عام 1994 الى مستشفى ابن سينا. وانا اخبرت زوجته جانيت خوند وفؤاد ابو ناضر و”الحكيم” بذلك. كان بطرس خوند هناك وهم حتى اللحظة ينكرون. وهناك من يتعاطى مع هذا الملف بخفة شديدة. في كل حال، انا خرجت من هناك مع 44 معتقلاً في صيدنايا و10 من تدمر يوم اتى البابا يوحنا بولس الثاني الى سوريا. البطريرك مار نصرالله بطرس صفير اعطاه أسماءنا ليطلب من النظام اطلاقنا. ويتذكر: كانوا يتلاعبون دائماً بأعصابنا فيقولون لنا مبروك ستخرجون. لكن يومها بدأوا في عدّنا واحداً تلو واحد ونقلونا معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي من المعتقل السوري الى وزارة الدفاع في اليرزة. وحين فكوا عصابة العينين رأيت العميد عمر، الذي كان يحقق معنا في سوريا، يحقق معنا في وزارة الدفاع. وهو سوري. ثمة أمور لا يتخيلها عقل حصلت معنا. وما زال هناك من يقول: الشقيقة سوريا. سوريا قد تصبح ذات يوم شقيقة لكن هذا النظام قتلنا.

 

هو نيسان هذا. وفي نيسان الجديد، مع حلول “عيد القيامة” واقتراب ذكرى الحرب اللبنانية، يتجدد الوجع عند لبنانيين كثيرين. وهم أكثر العالمين، أن الدولة التي غضّت النظر عن زلزال بيروت الجديد لم تضغط كفاية من أجل إطلاق أولادهم. لكن، نكرر ما كرروه: لا يموت من وراءه مطالب.