Site icon IMLebanon

كشف الحسابات

ليس كل ما يقوله صندوق النقد مقدساً وليس كل ما يوصي به مرشحاً للنجاح. خصوصاً إذا ما أخذت توصياته غب الطلب. بمعنى آخر أن يؤخذ بوصية رفع الضريبة على القيمة المضافة وزيادة الرسوم على البنزين وكالعادة ترمى جانباً التوصيات الأخرى لا سيما تلك المتعلقة بالإصلاحات وحصر النفقات.
أما النقطة المحورية التي لا بد من التوقف عندها، والتي بنى عليها صندوق النقد تقريره، تتعلق بضرورة لا بل أولوية تحقيق فائض أولي مستدام في المالية العامة، كونه الحجر الأساس لأي إصلاح مالي، والهامش الضروري للسيطرة على العجز وتنامي الدين العام.
والواقع أن ما لم يقله صندوق النقد الدولي بلغته الدبلوماسية، صدمنا به نحن اللبنانيين، منذ أيام معدودة، حينما طالعنا أرقام وبيانات المالية العامة لسنة 2018 والتي بالمناسبة لم تأخذ حيّزها من النقاش. فبالأرقام تراجع الفائض الأولي من 2,838,416+ مليون ليرة لسنة 2017 إلى 1,7535- مليون ليرة لسنة 2018، بمعنى آخر الفائض الأولي تحول إلى عجز أولي. إنه الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه في المالية العامة لأي دولة. والمقصود بالفائض/العجز الأولي الفارق بين الواردات والنفقات قبل احتساب خدمة الدين، بتعبير آخر المحصلة الحسابية قبل الوصول إلى بند خدمة الدين واستعراض طرق وآليات تخفيضه والتي كان آخرها هندسة الـ 11 ملياراً بـ1%. وهنا أيضاً يجدر التوقف والإمعان بما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي لجهة التحذير من مغبة تحميل المصرف المركزي قروضاً بفوائد متدنية لمصلحة الدولة اللبنانية (البند26).
وبالعودة الى لب الموضوع، صدمة الـ 2018، العجز الأولي سببه “ضخامة” النفقات الحكومية، لا سيما في عبأيها: عبء “الرواتب والأجور” وعبء “كهرباء لبنان”. ولأن إعادة النظر ببند الرواتب والأجور، والتي لا بد منها أياً كانت الظروف والإعتبارات، عملية شاقة وطويلة الأمد، لن تؤتي ثمارها على مستوى المالية العامة إلا بعد حين، وذلك حتى لو ابتدأت اليوم، وذلك نظراً لعدد العاملين في القطاع العام (ما يفوق الـ 30% من القوى العاملة في لبنان) وعلى قاعدة أن أي حلّ يمر حكماً بتخفيض جذري لهذه الأعداد. لهذه الأسباب تُجمع الأطراف والمؤسسات الدولية كافة المتابعة للشأن الإقتصادي اللبناني، ومنها صندوق النقد الدولي، على أولوية معالجة عجز الكهرباء. إنه أسهل الحلول وأسرعها. لهذا أيضاً تحذّر هذه الأطراف من مغبة التباطؤ في إصلاح هذا القطاع. بالإضافة الى أن الأثر الإيجابي لإصلاح الكهرباء يتخطى إعادة التوازن للمالية العامة والإستقرار النقدي، ليساهم في تعزيز النمو من خلال تخفيض كلفة الإنتاج.
النقطة الأخرى، التي لا تقل أهمية، وأثارها صندوق النقد هي إعادة تصويب أرقام وأهداف مشروع موازنة الـ 2019، وتقريبها من الواقع وأصول المحاسبة العامة. فجاء في التقرير أن العجز الحقيقي وفقاً لما تضمنه مشروع موازنة 2019 المقدم من قبل الحكومة من معطيات يصل الى نسبة 9.75% وليس 7.5%، مسلطاً الضوء على ضرورة الأخذ في الإعتبار عوامل وعناصر أخرى لم تحتسب ومنها المتأخرات في المدفوعات. تلك المتأخرات ترهق الإقتصاد وتدفع ببعضه نحو الإفلاس ويكفي الإصغاء إلى ما تعانيه مؤسسات تتعامل مع الدولة منها مستشفيات ومدارس ومقاولون لمتعهدين جراء تأخير مستحقاتهم. فمنهم من أقفل أبوابه ومنهم من قلص عدد موظفيه ومنهم من أعاد النظر بسلسلة رواتبه. تلك المتأخرات هي دين عام غير محسوب يضاف الى الـ 86 مليار دولار التي تقلقنا وتقلق العالم معنا لأن قدرتنا على الإستمرار بتمويل العجز لامست كل الخطوط الحمراء.
قال الصندوق، كما في كل مرة، كلمته ومشى. توصياته قد تكون مادة للأخذ والرد أما توصيفه فيتسم بقدر كبير من الدقة. هو قدم كشف حسابه وسلمه لحكومة، أطرافها غارقة في حساباتها.