أن يأخذ تحالف عربي ـ اقليمي، بقيادة المملكة العربية السعودية، على عاتقه إعادة اليمن إلى السلطة الشرعية، دليل على أن هناك من يفكّر فعلا في المستقبل. مثل هذا التحالف يركّز على حماية النظام الأمني في الإقليم من الميليشيات المذهبية. من هنا، يبدو القرار، الذي اتخذته القمة العربية التي انعقدت في شرم الشيخ، والذي يدعو إلى قيام قوّة عربية مشتركة، خطوة أولى في هذا الإتجاه. تبيّن أن هذه الخطوة ليست حبرا على ورق بعدما تلت القمة بداية عملية «عاصفة العزم»، التي تعتبر الأولى من نوعها في التاريخ العربي الحديث. إنّها إحدى المرات القليلة التي يسبق فيها الفعل العربي البيان الصادر عن القمة. بكلام أوضح، إنّها المرّة الأولى التي يسبق الفعل الكلام العربي، الذي كان في الماضي يبقى كلاما…
تهدّد الميليشيات المذهبية أو الدينية معظم الدول العربية. تهدّد مصر التي تتعرّض لأعمال إرهابية كما تهدّد سوريا، حيث يراهن النظام الأقلّوي على الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والدعم الإيراني والروسي للبقاء في السلطة.
تهدّد أيضا العراق الذي فتّته الميليشيات المذهبية التي تدّعي أنّها تمثّل الدولة وأنّها تقوم مقامها وتستطيع الحلول مكانها. كذلك، تهدّد الميليشيات المذهبية لبنان الذي بات تحت رحمة «حزب الله» الذي أقام دولته داخل الدويلة اللبنانية ويمنع، معتمدا على ميليشيا مسلّحة، إنتخاب رئيس للجمهورية بطلب من ايران. صار في إمكان ايران اعتبار بيروت مدينة متوسّطية تقع في دائرة نفوذها.
باتت معظم الكيانات العربية مهدّدة بطريقة أو بأخرى. تونس مهدّدة. ليبيا مهدّدة. من لديه بعض من ذاكرة، يستطيع العودة إلى المرحلة الأخيرة من عهد حسني مبارك في مصر. وقتذاك، بدأ الإخوان المسلمون يظهرون في الجامعات وفي اماكن أخرى في شكل ميليشيات مدرّبة، لم يكن ينقصها سوى حمل السلاح في العلن.
هذه الميليشيات الإخوانية خطفت «ثورة الخامس والعشرين من يناير» وأوصلت محمّد مرسي إلى الرئاسة، وذلك بدل أن ينشأ في مصر نظام ديموقراطي بالفعل. أي نظام يؤمن أوّل ما يؤمن بالتداول السلمي للسلطة وليس بفرض مرشّح معيّن رئيسا على المصريين.
ليس بعيدا اليوم الذي سيتبيّن فيه أن الإخوان فرضوا مرسي، بدل أحمد شفيق، بقوة السلاح قبل أن يزيحه المصريون معتمدين على الشارع الذي نزلوا إليه بالملايين أوّلا. إعتمدوا بعد ذلك على المؤسسة العسكرية التي حافظت على هيبة الدولة. أنقذ المصريون «الدولة العميقة» من ميليشيا الإخوان. من ساعد مصر في ثورتها، على الإخوان هو الدعم العربي الذي تأمّن لـ»ثورة الثلاثين من يونيو».
ليس هناك أخطر من الميليشيات المسلحة التي تعمل خارج اطار الدولة، كما في لبنان أو في اطار الدولة، كما في سوريا والعراق. ولذلك، يمكن وصف ما تشهده المنطقة حاليا، انطلاقا من اليمن، بداية مرحلة جديدة. إنّها بداية العدّ العكسي لعهد الميليشيات المذهبية أو الدينية التي تؤمن بفوضى السلاح.
تكاد فوضى السلاح أن تقضي على القضية الفلسطينية بعدما طردت «حماس» السلطة الوطنية من قطاع غزّة منتصف العام . بدل أن يؤدي الإنسحاب الإسرائيلي من جانب واحد من القطاع إلى قيام نواة لدولة فلسطينية مسالمة تشكّل نموذجا لما يمكن أن يحقّقه الفلسطينيون في حال توافر السلام، كان اصرار «حماس» على فوضى السلاح بمثابة دعم للموقف الإسرائيلي الذي تختزله عبارة «إرهاب الدولة».
سعت اسرائيل في موازاة انسحابها من كلّ غزّة، صيف العام إلى تكريس احتلالها للقدس الشرقية وقسم من الضفّة الغربية. كانت حجتها ولا تزال أن لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه بدليل ما يصدر عن ميليشيات «حماس» في غزّة…
المؤسف أن ما صدر عن «حماس» لم يخدم اسرائيل وسياستها التوسّعية فحسب، بل قضى على كلّ أمل في استعادة الوحدة الفلسطينية بغية العمل من أجل السير في مشروع وطني واقعي إلى حدّ كبير يستند إلى قرارات الشرعية الدولية.
حيث حلّت الميليشيات يحلّ الخراب. خراب دول ومجتمعات عربية. لذلك يمكن اعتبار تصدّي التحالف العربي للحوثيين في صنعاء تطورا في غاية الأهمّية ودليلا على الحيوية التي تمتلكها قيادة سعودية شابة تعمل باشراف الملك سلمان بن عبد العزيز.
ما يفعله الحوثيون في اليمن يشكّل نموذجا لعملية تفكيك دولة في حاجة إلى ايجاد صيغة جديدة للبلد، صيغة تسمح بحماية الشعب اليمني من كوارث يبدو مقبلا عليها.
لا يمتلك الحوثيون، الذين باتوا يسمّون نفسهم «انصار الله»، أي مشروع سياسي أو اقتصادي باستثناء الشعارات التي رفعوها. لعلّ أخطر ما فعلوه، منذ بدأ زحفهم في اتجاه صنعاء في اواخر العام ، اعتبار نفسهم ممثلين لشرعية ما. انقلب الحوثيون على كلّ الإتفاقات التي توصلوا إليها مع الأطراف اليمنية الأخرى. أدركوا أنّ هناك فراغا في البلد فعملوا على ملئه. أعلن زعيم «انصار الله» عبدالملك الحوثي في مرحلة ما بعد السيطرة على صنعاء أنّ نظاما جديدا قام في اليمن. يستند هذا النظام إلى «الشرعية الثورية»…أي بشرعية لا علاقة لها سوى بما تفرضه قوّة السلاح غير الشرعي على الآخر.
جاءت عملية «عاصفة العزم» لتضع حدّا لمثل هذه التصرفات التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما يطمح إليه اليمنيون، أكانوا في الشمال أو الجنوب أو الوسط. كيف يمكن لمجموعة مذهبية مسلّحة غيّرت طبيعة المجتمع الزيدي في صعده، وليس في كلّ اليمن، أن تجرّ اليمن إلى أن يتحوّل مجرّد مستعمرة ايرانية؟
هناك أخيرا تحرّك عربي ذو طابع هجومي يؤكّد أن الشرعية هي الشرعية، حتّى لو كانت شرعية عبد ربّه منصور هادي…الذي ليس سوى رئيس إنتقالي، أجبره «انصار الله» على الإستقالة ثمّ وضعوه في الإقامة الجبرية، وراحوا يوجّهون إليه كلّ نوع من التهم لمجرّد أنّه نجح في الفرار من صنعاء إلى عدن!
سيتوقف الكثير على نجاح «عاصفة العزم». في حال نجاح العملية واسقاط الحوثيين سيتبيّن أنه لا يزال هناك وزن للعرب في المعادلة الإقليمية. سيتبيّن أنّه ليس صحيحا أن القوى التي تتحكّم بالمنطقة ومستقبلها هي قوى غير عربية لا مانع لديها في انتشار الميليشيات المذهبية. هذه القوى هي ايران وتركيا واسرائيل التي تتطلع إلى تقاسم النفوذ في المنطقة العربية مستعينة بكلّ ما يمكن أن يثير الغرائز المذهبية حيث ينفع ذلك وتشجيع التطرف الديني حيث لا مجال لإستثارة السنّة على الشيعة والشيعة على السنّة، كما الحال في ليبيا مثلا.
هل من مجال للتفاؤل ولو قليلا بامكان انقضاء عهد الميليشيات في المنطقة العربية، بما في ذلك عهد الأنظمة التي تستعين بالميليشيات للبقاء في السلطة كما في سوريا؟
الميل إلى التفاؤل، خصوصا في ظل الإصرار الذي عبّر عنه العاهل السعودي على النجاح في اليمن. النجاح هناك ممكن، خصوصا إذا أخذنا في الإعتبار عدد الدول المشاركة في «عاصفة العزم» وقدرة هذه الدول التي من بينها مصر على الإحاطة بالأزمة اليمنية من كلّ جوانبها.