يحضر على جدول أعمال مجلس الوزراء، اليوم، بند مخصص لمناقشة التداعيات المالية والنقدية على عقود الأشغال والخدمات العامة، في ضوء اقتراحات قدّمها مجلس الإنماء والإعمار تهدف من جهة إلى إنهاء عقود الإنشاء المموّلة محلياً بالليرة اللبنانية والتي بدأ العمل بها قبل 2019 وإعادة تلزيمها بأسعارٍ جديدة، ومن جهة ثانية إلى تعديل أسعار عقود الصيانة والتشغيل بذريعة «إعادة التوازن المالي إليها»، وكل ذلك بحجّة التدهور الحاصل في قيمة الليرة وفقدان العقود لتوازنها المالي. علماً أن ديوان المحاسبة كان قد اشترط لإعادة النظر في الأسعار ووضع معادلاتٍ جديدة لها أن يكون المتعهد لا يزال مستمراً في تنفيذ عقد التشغيل والصيانة، وهو ما لا يحصل حالياً.
إزاء اصطدام مصالح «متعهدي الجمهورية» برأي الديوان المنطلق من توحيد المعايير بين كل العقود والمتعهدين، ارتأى مجلس الإنماء والإعمار اللجوء إلى مجلس الوزراء، بهدف تأمين مصالح عددٍ محدودٍ من المتعهدين العاملين في بعض مشاريع التشغيل والإدارة من دون غيرهم، لا سيما: عقد تشغيل وصيانة مطار بيروت الدولي، عقد تشغيل وصيانة المدينة الجامعية في الحدث، بعض عقود إدارة النفايات الصلبة، بعض عقود تشغيل وصيانة محطات تكرير الصرف الصحي، حاصراً تداعيات الأزمة المالية بهؤلاء المتعهدين وقاصراً حلوله عليهم وعلى مقياسهم.
عقود المتعهدين مع مجلس الإنماء والإعمار، إما ممولة بالدولار من جهات مانحة أجنبية، أو بالليرة من الخزينة العامة، أو تخضع لتمويل مشترك محلي وأجنبي. ومنذ العام 2019، مع بدء اهتزاز سعر الصرف وتدهور قيمة الليرة، بدأ الحديث عن تداعيات الأزمة على القطاع العام، ومعه بدأ المتعهدون بالتخفيف تدريجياً من تنفيذ ما أوكل إليهم بموجب عقودهم مع «الإنماء والإعمار» باعتبار أن العقود فقدت توازنها المالي. على الأثر، شكّلت حكومة حسان دياب لجنةً وزارية لمعالجة تداعيات الأزمة المالية على سير المرافق العامة، وطلبت الرأي الاستشاري لديوان المحاسبة الذي صدر بتاريخ 23/12/2021 وحمل الرقم 68/2021، والذي تنطلق أحكامه من حدود تطبيق نظرية الطوارئ الاقتصادية غير المتوقّعة على العقود الإدارية، ومن مختلف التقنيات العقدية المتاحة لتنفيذ العقد أو إنهائه. وفيه اقترح الديوان ما يلي:
– في إطار تعديل قيمة العقود القائمة والمتعلّقة بالتشغيل والصيانة، يقتضي وضع معادلات الأسعار وفق الأصول الفنية والقانونية وعلى أسس واقعية تُظهر حجم المتغيّرات في كل عنصر من عناصر العقود الإدارية.
– يقتضي توحيد الأحكام المتّبعة في إطار التعديل والتعويض، بحيث تنطبق على مختلف العقود وفق المدد الزمنية المرتبطة بها، بحيث تصنّف تلك العقود وفق فئات معيّنة تنطبق على كل فئة منها الأحكام والأصول نفسها ضمن الضوابط عينها.
– محاسبة الملتزم في أوقات دورية قصيرة ومتتابعة في العقود الجارية من شأنه تخفيف وقع التقلبات المستمرة في أسعار الصرف.
ad
– في إطار مدى إمكانية إنهاء العقود الإدارية الموقّعة مع القطاع العام أو استمرارها، فإنّه يقتضي أن ينطلق من المنفعة والضرر باختلاف موضوع العقد. ويقتضي أن يتم اتفاقاً وعلى أن تتوخى الإدارة فيه إبراء ذمتها الصريح من قبل المتعهّد تجنباً لأي نزاع مستقبلي.
– يمكن منح سلفات للمتعهدين تجنباً لتأثير ارتفاع سعر الصرف بين تاريخ التعاقد وتاريخ التنفيذ وفق الضوابط القانونية المرعية الإجراء.
– يمكن تخفيف قيمة الكفالات بما لا يؤثر في جديّة العرض مع الأخذ في الاعتبار الوضع المصرفي الراهن (الصعب والمتعثر) وتكاليف الكفالات المرهقة أحياناً.
بمعنى آخر، ميّز الديوان بين الأعمال الإنشائية وأعمال الصيانة والتشغيل، واشترط لتعديل أسعار الأخيرة أن يكون المتعهد مستمراً في أداء التزامه.
في دفاعه عن المتعهدين يدعي الإنماء والإعمار أنهم يستكملون أعمالهم، وهو ما ليس صحيحاً. فعلى سبيل المثال، أعمال صيانة والتشغيل في مجمع الحدث الجامعي لا تتعدى الـ5% بحسب متابعين.
من جهة أخرى، اعتبر الديوان أن العقود الممولة من جهات أجنبية لا داعي لتعديل أسعارها بما أنها تُدفع بالدولار. ولكن، على عكس هذا الرأي، يقترح «الإنماء والإعمار» اليوم إعادة النظر بأسعار هذه العقود. كما أن المتعهدين في عقود التشغيل والصيانة هذه (النفايات، الجامعة اللبنانية الخ…) يكونون قد قبضوا مستحقات التجهيز اللوجستي المسبق التي توازي أكثر من 60% من قيمة العقد ليطالبوا بعدها بتعديل السعر على أساس الأسعار الرائجة حالياً، علماً أن قيمة التجهيز اللوجستي المُسبق قد سبق قبضها، واعتبرت أرباحاً صافية للمتعهدين.
كما أن مجلس الإنماء والإعمار يقترح إنهاء بعض العقود بحالتها الراهنة رغم أن الأعمال المُنجزة تجاوزت نسبة 50%، وذلك لا يندرج سوى في خانة حماية مصالح المتعهّدين الذّين قبضوا معظم مستحقاتهم بمجرد أمر المباشرة بتنفيذ العقد، والتي عادة ما تتجاوز قيمة الأشغال المنفّذة فعلياً، ومع إنهاء العقود ستُترك الأعمال المتبقية من دون تنفيذ ومن دون إلزامهم باستكمال الأعمال ومن دون قدرة الدولة بوضعها الراهن على التلزيم مجدداً بشكلٍ يؤدي حكماً إلى هلاك الأجزاء المنفّذة. وإن استطاعت الإدارة إعادة التلزيم سيكون على عاتقها تسديد مستحقات التجهيز اللوجستي المسبق التي سبق أن تم دفعها، وهي توازي أكثر من 30% من قيمة الأشغال، والتي يكون قد قبضها المتعهد فور إبلاغه أمر المباشرة بالتنفيذ.
بالنتيجة، يسمسر «الإنماء والإعمار» لصالح متعهديه، وفي ذلك خسارة محتمة لخزينة الدولة، وتخفيف عن كاهل المتعهدين الذين حصّلوا المليارات بعقود تدور الشبهات حول معظمها على مدى سنوات، وها هم اليوم يرفضون تحمل أي جزء من تداعيات الأزمة التي لا تترجم في حالتهم إلا تقليصاً لهامش ربحهم فقط لا غير.