IMLebanon

الإنماء بحاجة لهندسة مالية وإقتصادية

إحتلت قضية حماية المستهلك مكانة جوهرية بين القضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية والإنسانية التي تهم المؤسسات كافة كون المستهلك هو محور عمل واهتمام تلك المنظمات والسبب الأساسي لوجودها وديمومة أنشطتها. ومع تطور البيئة الإستهلاكية والقدرة الكبيرة لمنظمات الأعمال في ضخ كميات كبيرة وأنواع هائلة من السلع والخدمات في السوق فإن هذا الأمر قد يؤدي إلى خرق قواعد التعامل الصحيح والإستغلال بشتى الطرق والأساليب لحقوق المستهلكين. وهكذا ظهرت في العالم الغربي حركات حماية المستهلك التي مثلت جهة ضاغطة على المنظمات المعنية لكي تأخذ بعين الإعتبار حقوق المستهلك وتطور إمكانياتها وسلوكياتها وهي تتعامل مع كافة فئات المستهلكين. وبعبارة أخرى مثلت هذه الجمعيات قواعد إجتماعية مختلفة ينصب عملها في الحد من التأثيرات السلبية الناجمة عن إدارة منظمات الأعمال تجاه المستهلكين.

وكنت قد قرأت مؤخراً بأن إدارة الدواء والغذاء الأميركية قد أعلنت أنّ المستهلكين المحليين سيعانون من خسارة تقدّر قيمتها بنحو ٥،٢٧ مليارات دولار على مدى عشرين عاما، عندما تبدأ المطاعم بوضع عدد السعرات الحرارية الموجودة في كل وجبة على قوائم الطعام مما سوف يثنيهم عن طلب البطاطا المقلية والهامبرغر أو حلوى البراونيز وغيرها من الوجبات المفضلة لديهم والغنية بالسعرات الحرارية. فقد أدخلت إدارة الدواء والغذاء قواعد تصنيف جديدة تلزم بموجبها شبكات المطاعم والمتاجر التي تبيع وجبات جاهزة وأصحاب ماكينات بيع الطعام الجاهز وفي كافيتريات المسارح والمتنزهات الترفيهية بإلزامهم بوضع عدد السعرات الحرارية التي تحتويها كل وجبة على قائمة الطعام تحت طائلة الملاحقة القانونية.  وكنت أتساءل وأنا أقرأ هذه المقالة أين نحن في لبنان من كل هذا؟ فهم يحللون الأطعمة ويلزمون المطاعم بوضع كميات السعرات الحرارية على القوائم من أجل أن يتناول المستهلك طعاما صحيا أما نحن فلا ندري ماذا نأكل؟

 لذلك فإن مجال حقوق المستهلك من المواضيع التي أخذت حيزاً واسعاً في العالم المتطور ولكنه لا يلقى الأهمية ذاتها في دول العالم الثالث، وله أهميته في أدبيات علم الإدارة العامة وإدارة التسويق بصورة خاصة وهي من المفاهيم الأكثر أهمية خاصة للمستهلكين, خاصة في بيئة الأعمال التي تتسم بالتعقيد والتغيير المستمر وفي ظل مفهوم حرية السوق وتركيز المنظمات والتجار على الأرباح وتجاهل المستهلك، ولا شك أن تحقيق هذا الهدف يتطلب الإلتزام من قبل المنتجين والمنظمات بشروط العمل الصحيحة وتحمل مسؤولياتهم التي تضمن من خلالها حصول المستهلك على منتجات تتمتع بالمواصفات المطلوبة وتتوفر فيها حقوقه المنصوص عليها في الدساتير القانونية وأن لا يتعرض إلى خداع أو تضليل، لأن العديد من المنظمات تهدف إلى إستغلال عدم معرفة المستهلكين بحقوقهم.

و نحن في لبنان اليوم لا نتطلع فقط بأن تقوم وزارتي الصحة والإقتصاد بدورهما الشمولي والأكمل، بل أن تكون قادرة على تسهيل المجال لكل من له الرغبة في الدخول لقطاعي الصناعة والتجارة والعمل ضمن قواعد صحية صحيحة, لأنها بذلك ستساعد في جلب المال للبلاد بدلا من تشجيعه للرحيل إلى دول أخرى بديلة للإستثمار فيها، وطبعا سيكون نتاج ذلك فتح المجال لتوظيف الآلاف من أبناء البلاد والقضاء على البطالة المرتفعة وهذا هدف مهم وكبير لا يقل أهمية أبداً عن دور حماية المستهلك الذي تقوم به الوزارة اليوم. ويتطلع اللبنانيون أيضا لهيئة عامة للإستثمار قادرة على المنافسة بالمعايير الدولية العالمية, قادرة على أن تكون جاذبة لكافة طالبي الإستثمار في السوق الإقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. هيئة تستطيع أن تقدم الأدوات والعناصر والوسائل الممكنة لتذليل الصعوبات والمشاكل أمام المتقدم إليها بدلا من خسارته لصالح أسواق ودول بديلة مجاورة أو بعيدة تقدم وسائل وعناصر الجذب والإغراء بشكل سلس ومتمكن. يتطلع اللبنانيون إلى أنظمة وتشريعات تحث على التوظيف الوطني بقوة ولكنها في نفس الوقت ترعى الكفاءات الإستثنائية التي لا وجود لها في السوق المحلية ولكنها بحاجة ماسة لها ولا بد من الحفاظ عليها أو جلبها بدلا من خسارتها لصالح بلدان أخرى. إننا نتطلع إلى عودة الإحترام والكفاءة والجدارة للوزارات وإلى اعادة نشر إحصائيات وبيانات حقيقية تعكس الواقع الاقتصادي وتبين واقعنا الحالي، وإلى طرح عقلاني يسمح للمواطن بمعرفة ما يجري في الشأن الإقتصادي بشفافية ووضوح وإلى طرح جاد يعكس واقع البطالة والنمو الإقتصادي والتضخم بشكل صريح حتى يصبح المواطن واعياً للتحديات التي تواجهه بدلاً من تبسيط الأمور أمامه، فهذا هو دور الوزارة وليس فقط المشاركة في الندوات والمؤتمرات والمنتديات.

و من هنا فإن عملية الإنماء تتطلب أكثر من مجرد الإستعداد لتحمل مصاعبها. فهي تتطلب، بالدرجة الاولى، تطويع الوضع المؤسسي العام وتطويره بحيث يقبل على الإستثمار. ثم هي تتطلب رأس المال الكافي للقيام بعملية إستثمار شاملة والمصارف تأكد بأن أموال هذه الاستثمارات موجودة وهي قابعة في ودائع مجمدة مقابل فوائد متدنية. أما عدم الثقة مفقودة لدى المستثمرين فسببها الاجراءات القانونية المعقدة والبطيئة والفساد المستشري في الدوائر الرسمية التي تلتهم الأرباح قبل بدأ المشاريع. ويمكن أن نقسم موارد رأس المال إلى قسمين: الأول، رأس المال الوطني ومصدره القطاعان الخاص والعام، ثم رأس المال الأجنبي وحافزه عادة إما إقتصادي أو سياسي. ويمكن زيادة رأس المال الوطني عن طريق تخفيض مستوى الإستهلاك، وبالتالي ارتفاع كمية المدخرات. وكلما توفر الرأس المال زادت الإستثمارات وتحسن معها المستوى التقني، ويجب أن يرافق ذلك سياسة تعيد تنظيم جميع مرافق الحياة الإقتصادية، المالية والتجارية والضريبية الخ..، بحيث تزيد المساحة الإقتصادية المستثمرة وتزيد معها الفعاليات الإنتاجية. وسوف يواكب كل هذا إرتفاع مستمر في المستوى التقني والعلمي والثقافي، ثم تطور في التشكيل المجتمعي والمؤسسي في سياق صاعد نحو زيادة الدخل القومي ورفع مستوى المعيشة.

إن أية نظرية إنمائية، مرتبط تطبيقها بحرية المجموعة البشرية، ولا يمكن أن تطبق بنجاح إلا إذا بنيت على أساس دراسة منهكة للواقع الإقتصادي والإجتماعي والمؤسسي الحالي للبلاد، بحيث توضح جميع الوقائع المؤثرة في عملية الإنماء والعمل على الغاء عامل الفساد المالي والاداري. وبعد هذه المعالجة الشاملة والملحة يمكن ملاحظة العوامل الإنمائية الرئيسة والفرعية التي تتفاعل لتحرك عملية الإنماء. والمهم أن شعور «عدم الرضى» يولد نوعاً من «النقمة» على الوضع الإقتصادي – الإجتماعي، كما يولد توقاً إلى التحسن خاصة إذا ما خرجت هذه النقمة من مرحلتها السلبية إلى مرحلة إيجابية، أي إلى إستعداد عام للعمل وتحمل المشاق التي تنتج عن عملية الإنماء، فقد يصبح الجو مهيئاً لدفع عملية الإنماء إلى الأمام والإسهام في نجاحها. فاللبنانيون مروا بظروف صعبة وتمكنوا من استغلال الظروف بسياسات إدارية ومالية كانت بمثابة إعادة هندسة للتوجه المالي والإقتصادي التي جاءت بفوائد مهمة جداً في فترة بسيطة، وإننا ننتظر بأن يعود للبنان دوره كصاحب الثقل التجاري المهم وأن تعود له المكانة الاقتصادية الكبرى في سوق الشرق الأوسط، لأنه بحاجة لتلك الاصلاحات وبشكل سريع لأن الانماء هو ميزة التطور وتشهده معظم الدول المنافسة لنا في المنطقة أما نحن فما زلنا في مكاننا نراوح ولكن الى متى؟!!!.