استبق مستشار المرشد الإيراني الأعلى للشؤون الدولية وزير الخارجية السابق علي أكبر ولايتي أعمال القمة العربية التاسعة والعشرين بإطلاق تصريح يقول فيه إن هذه القمم «تــــعقد بضغط من الحكومة السعودية وإنها فاقدة للصدقية السياسية والدولية». والحقيقة أنه يجب أن نعطي للسياسي الإيراني شيئاً من التقدير لأنه كان أول من تنبأ بنجاح القمة التي عقدت على الساحل الغربي للخليج العربي في مواجهة السواحل الشرقية من هذا الخليج التي تعرف تاريخياً بالأحواز العربية وتحتلها الدولة الصفوية منذ العام 1925.
ولايتي عرف مسبقاً أن أصابع نظام الآيات في «قُم» لم تعد قادرة على تخريب اجتماعات الجامعة العربية كما كانت تفعل إلى وقت قريب، ولذا فإنه استبق البيان الختامي بمهاجمة القمة، وعمد إلى إلغاء إرادة القادة العرب، حتى أولئك الذين كان يعتمد عليهم، بالزعم بأن النتائج – مهما كانت – فهي ستكون نتيجة إملاءات سعودية، وبالطبع فإنه من غير المفهوم قوله إن هذه القمم فاقدة للصدقية السياسية والدولية، بينما يحضرها ممثلون رفيعو المستوى لكل المنظمات والتجمعات الدولية الأكثر أهمية بدءاً من الأمم المتحدة وانتهاء بمنظمة التعاون الإسلامي ومروراً بالاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، الذين ألقوا كلمات أكدت تفهمهم للقضايا العربية وحرصهم على العمل مع المجموعة العربية في مواجهة الشذوذ الدولي المتمثل بالإرهاب وداعميه وفي مقدمهم نظام طهران، إضافة إلى رسالتين للقمة من الرئيس الروسي بوتين والقيادة الصينية كلها تؤكد صداقتها للعالم العربي وحــرصها على تــطوير العلاقات معه.
«قمة القدس» كما سماها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وجّهت الكثير من الرسائل كانت كلها في المجمل تشير بوضوح إلى أن أعداء الأمة العربية ينحصرون في إسرائيل التي تحتل الأرض الفلسطينية وتشرد أبناء فلسطين وتنتهك المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، وفي إيران التي تنشر الفوضى في الدول العربية وترسل ميليشياتها التخريبية في بغداد ودمشق وبيروت، وتدعم بوضوح المليشيات الانفصالية في اليمن، وقد أجمع العرب من دون تحفظ على تسمية الأشياء بأسمائها والإشارة إلى الفاعلين بجرائمهم، والمتأمل لبنود بيان الظهران يجد أن نصفها يتحدث عن إسرائيل والنصف الآخر يتحدث عن إيران.
أولى رسائل القمة كانت في اختيار الملك سلمان مدينة الظهران على ساحل الخليج العربي مكاناً لانعقادها واستضافة القادة العرب فيها، ومن هذا جاء اختيار مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي قاعة للمؤتمر في إشارة رمزية شديدة الدلالة إلى دعوة العرب إلى النظر إلى المستقبل من خلال الإبداع والابتكار، وأن انتصارات العرب المقبلة يجب أن تأتي من هذا الطريق، وأتمنى أن كان للقادة بعض الوقت ليتجولوا في جنبات المركز ليعرفوا أي قدر من الإلهام تحمله السعودية الجديدة للأجيال القادمة من أمتنا. ولعل قمة مقبلة تستضيفها المملكة تكون في «نيوم» مدينة المستقبل.
ثاني رسائل القمة جاءت مع الكلمة الافتتاحية التي بدأ بها الملك سلمان فترة رئاسته للقمة العربية حين أعلن أن هذه القمة هي «قمة القدس»، في تأكيد واضح أن المملكة والأمة العربية ليست في وارد التخلي عن القضية الفلسطينية كقضية مركزية ومصيرية، وأن أي حديث عن تسوية سلمية يجب أن تتم وفقاً لتثبيت الحق الفلسطيني في تقرير مصيره واستعادة أرضه ودولته والقدس في مقدمها عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن المرجعية في ذلك هي مبادرة السلام العربية وليس أي أكاذيب يروج لها البعض عن صفقات لا وجود لها إلا في تفكيرهم التآمري، ثم أتبع الملك سلمان ذلك حين أعلن عن تبرع المملكة بمبلغ 150 مليون دولار لصندوق الأوقاف الإسلامي في فلسطين و50 مليون دولار أخرى لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المهددة بالتوقف عن العمل بعد سحب الولايات المتحدة دعمها لها.
ثالث رسائل القمة وأكثرها أهمية هي حالة التوافق الفريدة في المواقف بين الدول العربية التي لم تسجل من زمن طويل، فلم تسجل حالة اعتراض أو تحفظ واحدة على بيان شديد الوضوح في قمة استغرقت يوماً واحداً فقط، فعدا عن التأكيد على الحق الفلسطيني وقضية القدس والاستنكار الشديد اللهجة للموقف الأميركي بالاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها، فإن الدول العربية أجمعت على الإدانة الشديدة لما تعرضت له المملكة العربية السعودية «من استهداف لأمنها عبر إطلاق ميلشيات الحوثي الإرهابية التابعة لإيران 119 صاروخاً بالستياً على مكة المكرمة والرياض وعدد من مدن المملكة»، وأكدت دعمها ومساندتها «للمملكة في كل ما تتخذه من إجراءات لحماية أمنها ومقدراتها»، وأعلنت القمة بوضوح لا لبس فيه مساندتها لمملكة البحرين «في كل ما تتخذه من إجراءات لحماية أمنها ومقدراتها من عبث التدخل الخارجي وأياديه الآثمة»، وبالوضوح نفسه ساندت القمة جهود التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، بل أنها أشادت «بحرص التحالف العربي البالغ على الالتزام بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في عملياته العسكرية في اليمن، على رغم كل الاستفزازات والممارسات الحوثية الإرهابية الخطرة تجاه الشعب اليمني وأمن دول التحالف».
وجاء النص الأكثر وضوحاً ومباشرة حين قال البيان: «نرفض التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية وندين المحاولات العدوانية الرامية إلى زعزعة الأمن وما تقوم به من تأجيج مذهبي وطائفي في الدول العربية بما في ذلك دعمها وتسليحها للميليشيات الإرهابية في عدد من الدول العربية لما تمثله من انتهاك لمبادئ حسن الجوار ولقواعد العلاقات الدولية ولمبادئ القانون الدولي ولميثاق منظمة الأمم المتحدة»، كما طالب إيران بسحب كل ميليشياتها وعناصرها المسلحة التابعة لها من الدول العربية كافة وبالأخص سورية واليمن.
علي أكبر ولايتي كان يعرف مسبقاً أن هذا الموقف الصلب سيخرج من الظهران، ويعرف أن القمة العربية برئاسة الملك سلمان ستكون واضحة في تحديد أعداء الأمة العربية، لذا حاول استباقها بمحاولة التشكيك في صدقيتها، الذي لا نعرفه هو ما الذي يجبر الجمهورية «الإسلامية» الإيرانية أن تضع نفسها في نفس خانة العداء للأمة العربية بجوار إسرائيل.