ربّ ضارّة نافعة. إذا كانت جائحة الكورونا نقطة ضعف لحكومة الرئيس حسّان دياب فهي نقطة قوّة أيضاً. لم تكن هذه الحكومة سعيدة بمواجهة هذه المعضلة التي أضيفت إلى المعضلات الكثيرة التي عليها مواجهتها. ولكنّها تلقّفتها كرة نار تحوّلت إلى قوة دفع واستمرار لتكتب لها عمراً طويلاً، لا يقلّ عن عمر المواجهة المفتوحة معها في العالم كله قبل الإنتصار عليها أو الإنكسار أمامها، بعدما تقدمت على كرات النار الأخرى التي تعتبر الحكومة أنها أتت لتحمّلها.
لم يكن مشهد لقاء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة الدكتور حسان دياب عادياً في قصر بعبدا قبل جلسة الحكومة يوم الخميس 2 نيسان الحالي. في صالون مكتب الرئيس جلسا متباعدين ووضع كل منهما كمامة على وجهه. إذا كان الحوار بينهما قبل الكمامات متعثّراً والتفاهم غير كامل فكيف تحت غطاء الكمامات التي تحجب فواصل الكلام وتصعب المهمّة على المتكلّمين.
إستحالات بالجملة
ما لم ينجزه دياب قبل تشكيل الحكومة لا يمكنه أن يعوّضه اليوم في مواجهة القضايا الكثيرة التي تنوء تحتها أكتافه وأكتاف الحكومة والوزراء. إذا كانت هناك أسباب كثيرة لإعادة النظر بالثقة التي كسبتها الحكومة بفعل تطوّرات الأحداث منذ ثورة 17 تشرين فإنّ هناك اليوم شبه استحالة لحجب الثقة عنها أو لاستقالتها. بسبب الكورونا لا مجال لإجراء استشارات نيابية ملزمة على رغم أن رئيس الجمهورية تحكّم بتحديد موعد هذه الإستشارات بعد استقالة الرئيس سعد الحريري وحكومته، ولا مجال أبداً لاستشارات يجريها رئيس الحكومة المكلف في حال جرت استشارات التكليف، ولا مجلس النوّاب قادر على عقد جلسة عامة لمنح أي حكومة جديدة الثقة. كل ذلك يقف أمام حاجز أكبر هو من يجرؤ اليوم أو بعد شهر أو أكثر على قبول مهمة تشكيل اي حكومة جديدة.
لم تكن تسمية حسّان دياب لرئاسة الحكومة سهلة ولا كانت عملية التأليف سهلة. إذا كان الرئيس الجديد للحكومة لاذ بالصمت طويلًا قبل التأليف وبعده، وإذا كان يلجأ إلى مطالعات دفاعية تحمل طابع الهجمات الوقائية داخل مجلس الوزراء، فإنّه يتحمّل مسؤولية ضعف هذه التركيبة التي ظهرت بعد عناء في 21 كانون الثاني الماضي. طالما أن الفريق الواحد الذي كان سمّى دياب ورافقه في رحلة التأليف قد عاش مرحلة نزاعات وصراعات، فإنّ دياب لم يغتنم الفرصة بعد تكليفه ليلعب ورقة قويّة كان تمتع بها. ولذلك ظهر وكأنه ليس هو من يؤلّف وحده بل هناك أكثر من شريك معه خصوصاً مع عقبات الأيام الأخيرة. عندما ارتضى النزول تحت سقف الأسماء التي أعطيت له في الساعات الأخيرة من الرئيس نبيه برّي و”حزب الله” والوزير جبران باسيل، وتحت سقف قبول تسمية وزيرين يمثلان رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لا يعود بإمكانه التحكم بمسار جلسات مجلس الوزراء، عندما يهدّد الرئيس برّي بسحب الوزراء الذين يمثّلونه داخل الحكومة، وعندما يطالب فرنجية بحصة في التعيينات المالية إذا لم يعطَ ممثلين اثنين له، تماماً كما حصل في عملية تشكيل الحكومة عندما اشترط ان يشارك مقابل وزيرين.
إخفاقات بالجملة
إذا كانت هذه الحكومة أتت تحديداً لاحتواء مفاعيل ثورة 17 تشرين وتطويقها ومعالجة الأزمة المالية فإنها أخفقت في هذه المهمة. صحيح أنه قيل أن رئيس الحكومة يعمل بصمت وأن الوزراء ينكبّون على الملفّات ولا يضيّعون الوقت، ولكن في الإجمال لم تظهر نتيجة هذه الأعمال ولم يتبيّن الفرق. وكأنّ هذه الحكومة تحاكي تجارب الحكومات السابقة وكأن لا أزمة مالية ولا أزمة كورونا، ولا خطر انهيار مالي واجتماعي وصحي بات يهدد الجميع.
صحيح أن الحكومة قررت وقف سداد الديون الخارجية ولكن ما بعد هذا القرار لم تتّضح صورة مساره. بعد شهر على تشكيل الحكومة كان عليها أن تدخل في مواجهة خطر انتشار الكورونا في لبنان منذ وصول أول طائرة إيرانية إلى مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي في بيروت في 21 شباط الماضي. بدا بعد هذا التاريخ أن الحكومة غرقت في أوحال الملفات المفتوحة.
صحيح أيضاً أن الرئيس دياب يعبّر عن مأزق عدم تحقيق أي نجاح في مطالعاته داخل مجلس الوزراء ولكن الصحيح أيضاً أن هذه المطالعات لا يجب أن تصب فقط في الإتجاه الذي يصوب عليه. مشكلته ليست حصراً مع الرئيس سعد الحريري أو مع قوى 14 آذار التي لم تسمه، ولا يجوز في كل مرّة أن يُذكّر أنه ليس طامحاً للعب أي دور سياسي أو منافسة أي كان انتخابياً، لأنّ ما كان مطلوباً منه هو أن يحقّق مع حكومته استعادة الثقة المفقودة وأن يصنع لهذه الحكومة شخصيتها المستقلة. ولكن بدل أن يحصل مثل هذا الأمر ظهر عكسه.
شركاء في المصائب
فشلت هذه الحكومة حتى اليوم في تأكيد أنها قادرة على القيام بأي عملية إنقاذ في أي ملفّ من الملفّات التي تحملها. لا يمكن الرئيس دياب أن يكتفي بالقول أن هذه الملفات ورثتها حكومته من ممارسات من توالوا على السلطة منذ ثلاثين عاماً، لأنّ معظم هؤلاء مشاركون معه في هذه الحكومة ومسؤولون عن التداعيات وحمّلتهم ثورة 17 تشرين المسؤولية. ولا يجوز له أن يوجه سهامه في اتجاه واحد ذلك أن القوى التي لم تُسمّه ولم تمنحه الثقة كانت تعطيه في المقابل فترة سماح، ليثبت أنه قادر على النجاح في معالجة ملفّ من الملفّات الكثيرة المطروحة ولكن هذا الأمر لم يحصل. فلا أفق للخروج من مشكلة الديون الخارجية والداخلية. ولا حل لمسألة الودائع في المصارف. ولا تصور للإستعانة بصندوق النقد الدولي. ولا إصلاح في أي إدارة. ولا وقف للهدر، ولا تحسين للجبايات التي توقف معظمها. ولا قدرة على إجراء تشكيلات قضائية مستقلّة. ولا خطّة جديدة لمعضلة الكهرباء. وثمة عجز في موضوع التعيينات المالية التي كشفت عورات الحكومة والممارسة التي تحكم طريقة عملها، بحيث ظهر أن الحكومة ليست سيّدة نفسها كما حاول الرئيس دياب أن يوحي أكثر من مرة. حتى في موضوع إعادة اللبنانيين الراغبين بالعودة إلى لبنان من الخارج هناك أكثر من مشكلة لا قدرة للحكومة على حلّها. فكيف ستتمكّن من حلّ مشكلة توفير الغذاء للبنانيين في هذه المرحلة وكيف ستؤمّن الأموال التي ستمنحها للمحتاجين منهم، وكيف ستتحكم بآلية الدفع وتحديد من هم الفقراء الجدد والقدامى والمحتاجون.
ثمة تسليم بأن صاحب القرار في هذه الحكومة هو الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بفعل تدخلاته السابقة التي سهلت تشكيل الحكومة وبحكم تدخلاته المستمرة علناً وسراً، لتمكينها من الإستمرار ولدفعها إلى تجنّب اتّخاذ قرارات لا يريدها أو تبني تلك التي يريدها، ومن خلال استمرار تدخله بين مكونات الحكومة من أجل تأمين بقائها. يبدو أن دور الحزب في هذا المجال مكمل لدور الكورونا الذي يحمي الحكومة من السقوط بسبب عدم توفّر أي بديل آخر اليوم.
على الرغم من خروج الناس من الشوارع، وعلى الرغم من انطواء صفحة 17 تشرين تحت ضغط خطر الكورونا، وعلى رغم أن مجلس النواب أصبح قفيراً من دون نحل، فإن السواتر والجدران لا تزال تزنّر المنطقة المحيطة به وبالسراي الحكومي.
كأنّ هناك خوفاً بات راسخاً من ثورة جديدة قد تتفجّر حتى في ظلّ خطر الكورونا. وإذا كان الرئيس دياب لم يستفد من نقاط قوّة تسميته رئيساً للحكومة فإنّه اليوم يستطيع أن يستفيد من قوة موقعه على رأس حكومة لا يمكن أن تستقيل. ربما تكون مشكلته أنه لم يجرؤ سابقاً ولن يجرؤ اليوم ولذلك يستمر عدم تحقيق الإنجازات وتتحول حكومته إلى ما كانت عليه الحكومات السابقة، التي كان وراءها نظام الوصاية السوري و”حزب الله” من حكومة الرئيس عمر كرامي في العام 1992، إلى حكومة الرئيس سليم الحص في العام 1998 إلى حكومة كرامي نفسه في العام 2004 إلى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011. تجارب كثيرة انتهت إلى فشل كبير. ولكن الفارق اليوم أن أيام الحكومات السابقة تلك لم تكن هناك أي جائحة كورونا تحميها.