كادت الحكومة في الساعات الأخيرة الماضية ان تنال نصيبها من ملف تقنين المازوت وتشريع احتكاره، وهي لم تخرج بعد من استحقاق «معمل سلعاتا». فيما هي لا تزال غارقة في ملف «الفيول المغشوش». ولذلك قيل، انّ ما شهدته الساعات الأخيرة من فضائح، رافقت احتمال رفع اسعار المازوت، دلّت الى انّ الحكومة ما زالت تعمل على الفيول والمازوت، مع دعوتها اللبنانيين الى ان يحلموا بـ «التغويز». كيف ولماذا؟
قبل الدخول في مسلسل الأخطاء التي ارتُكبت حتى اليوم في اكثر من مرة، كحكومة جامعة او كأفراد تسلّموا مهمات محدّدة ولم يبلوا البلاء الحسن، لا بدّ من توطئة تمهّد للحديث عن اسباب هذا الفشل واسبابه المتعددة الوجوه، والتي تُحتسب على انّها من اخطاء الجماعة احياناً والأفراد أحياناً أخرى.
ليس هناك من يتنكّر لحجم الملفات التي كان على الحكومة مواجهتها، وخصوصاً تلك التي ليس من السهل توافر اي حل لأي مشكلة او عقدة منها، سواء تلك الاقتصادية والنقدية، او البيئية والاجتماعية، والتي ورثتها حكومة «مواجهة التحدّيات» من الحكومات السابقة، او تلك التي نشأت لاحقاً.
فباستثناء نجاح الحكومة في معالجة «جائحة الكورونا»، التي شملت بتداعياتها العالم، لا يمكن للعارفين بخفايا هذا النجاح المحقّق، انّه استند في المواجهة الى ما تمتلكه وزارة الصحة من قدرات وخبرات. فقد تبيّن انّها كانت تستعد منذ عقدين من الزمن، بعدما انشأت هيئات علمية متخصصة من خارج هيكليتها الادارية التقليدية لمواجهة اي وباء. وهي التي خاضت بنجاح تجربة المواجهة مع وباء «الإيبولا» في غانا وسيراليون عام 2013 ، وهو ما اعترفت به حكومتا البلدين ومنظمة الصحة العالمية. وهي محطة ادخلت لبنان عقب تلك التجربة الى العضوية الدائمة لـ «هيئة الطوارئ لمواجهة الكوارث» الخماسية التابعة للمنظمة الدولية. هذا بالإضافة الى التعاون الوثيق الذي قام بين وزارة الصحة والمنظمة الدولية، منذ رصد اولى الإصابات التي وردت الى لبنان من ايران والصين، والتي مدّته بأولى ادوات المواجهة، قبل ان يتحرّك اي طرف آخر محلي او اقليمي أو دولي للمساعدة.
على هذه القاعدة، تتبادل الأندية السياسية روايات عدة حول ما شهدته بعض الملفات الحيوية الأخرى، ومنها ما يشهده سوق المشتقات النفطية من تطورات في الأيام الأولى لانتشار الكورونا في العالم، والتلاعب بأسواق النفط الى مرحلة تصفير اسعاره. فقد اظهرت التجارب منذ بداية آذار الماضي عجز الحكومة عن القيام بأي مبادرة لمعالجة الأزمة، قبل ان يبادر مصرف لبنان الى ضمان أسعار المشتقات النفطية بنسبة 85 %، الى جانب القمح والأدوية، على وقع مسلسل الإضرابات الدورية كل اسبوعين لأصحاب المحطات، رفضاً للظلم اللاحق بهم نتيجة شروط تجمّع الشركات والآلية التي حاولوا فرضها.
فمنذ تلك المرحلة، تبيّن انّ الشركات المستوردة للنفط هي التي تتحكّم بالأسواق بقدرة قادر، تارة بتعطيل إجراءات مصرف لبنان منذ لحظة اقرارها، واستمرت بالتلاعب بالمعادلات التي استند اليها تركيب الأسعار الجديد، وفرضت على اصحاب المحطات، بالإضافة الى دفع الـ 15 % من اسعار النفط بالدولار من السوق المحلي، فأصرّت على جباية الرسوم الجمركية والقيمة المضافة بالدولار في ما هي تسدّدها للدولة بالليرة اللبنانية.
ولمن تابع تلك المرحلة بأدق تفاصيلها، يتذكر مشاركة ممثل شركات استيراد المحروقات في اجتماع عُقد عند رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب مع نقابة اصحاب المحطات. كان ذلك في بداية الأزمة في آذار الماضي، عندما زاره وفد النقابة ليشكو إجراءات الشركات. فاعتقدوا في البداية انّ دياب دعاه ليكون ممثلاً للطرف الآخر المشكو منه، قبل ان يكتشفوا انّه من فريق مستشاريه للشؤون النفطية. فهالهم ما حصل، وانهالت الاتصالات لهول ما جرى، ولم يعد يشارك في اي لقاء من هذا النوع من دون معرفة ان كان قد تمّ الاستغناء عن خدماته كمستشار في السرايا الحكومي.
على هذه القواعد، بقي تعاطي الحكومة قائماً مع أزمة المشتقات النفطية دون ما هو مطلوب. ورغم استمرار الأزمات على اكثر من صعيد، فلم توفق الحكومة يوماً في ارساء صيغة للتعاون وخصوصاً عندما كَبر حجم الأزمة وتوسّع نطاق التهريب الى سوريا. فبقيت الإجراءات عاجزة عن لجمها، سواء نتيجة الفشل في المواجهة او عن تواطؤ يُسجّل على المعابر غير الشرعية، الى ان وقعت الأزمة الأخيرة، فتوقفت الشركات عن تسليم المازوت اثناء عطلة عيد الفطر لأربعة ايام تقريباً، من دون ان تنجح الاتصالات في تكثيف عمليات التسليم، الى ان وقعت الأزمة الكبرى قبل ايام نتيجة توقف الشركات عن تسليم المازوت، عقب التشدّد في التدابير للجم التهريب من دون وقفه. ورغم ثبوت التهمة، بإقفال مستودعات الشركات واحتكار المادة، لعبور هذه الأيام في انتظار رفع الاسعار.
وعلى وقع الأزمة التي واكبتها الشركات بوقف تسليم المازوت منذ خمسة ايام تقريباً، رغم التهديد باحتمال وقف مولدات الطاقة ومؤسسات الإتصالات و»اوجيرو» وغيرها من المنشآت نتيجة النقص في المادة او طرحها في السوق السوداء بأسعار تفوق نسبة الـ 40 % من السعر الرسمي. وأخطر ما ابرزته الأزمة الأخيرة في شكلها وتوقيتها، انّها جاءت في مرحلة تسرّبت فيها معلومات لشركات الإستيراد عن النية برفع اسعار المازوت، بنسبة تغطي الفارق بين سعر صفيحة المازوت في لبنان في حدود الـ 9000 ليرة، وسوريا التي بلغت بما يساوي 23 الف ليرة لبنانية. ولذلك كان الاقتراح الذي نوقش في الاجتماع الاخير للمجلس الاعلى للدفاع، عند البحث في وقف التهريب، برفع سعر الصفيحة الى 15 او 16 الف ليرة لبنانية للحدّ منه. وزاد من اسباب الأزمة الأخيرة توقّع رفع سعر الصفيحة 1300 ليرة، كما جاء في الجدول الاسبوعي الاخير الذي يصدر صباح كل اربعاء.
على هذه الخلفيات، لا يمكن للمرء ان يتجاهل كل هذه العناصر التي تدلّ الى الفشل في مواجهة هذه الأزمة، طالما انّ هناك اقوياء متحكمين وموظفين متورطين من كل المواقع، في تغذية مثل هذه الأزمات. فليست كلها نتيجة ازمة الكورونا وسعر صرف الليرة لتبرير العجز في المعالجة.
وعليه اتُهمت الحكومة بأنّها تعمل على «المازوت المفقود» و«الفيول المغشوش» فيما تدعو اللبنانيين الى الحلم بـ «التغويز». ولكن متى وكيف؟ وفي اي سنة يمكن ان يوضع حدّ لمثل هذه الأزمات والحؤول دون تكرارها، بما تحمله من فضائح تنبعث منها الروائح الكريهة؟…