على الرغم من الصعوبات التي تواجه لبنان، يقترح البعض القيام بالإجراءات الأكثر صعوبة والأكثر وجعًا على الشعب. فبين خفض سعر صرف الليرة والهيركات مرورًا بتحويل جزء من الحسابات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية، يذهب هذا البعض بعيدًا في الطروحات في حين أن المُشكلة الأساسية هي في مكان آخر وحلّها هو أساس لأي حلّ مُستقبلي.
المُشكلة التي نتحدّث عنها هي مُشكلة الفساد الذي يعصف بلبنان منذ نشأة الدولة اللبنانية وحتى يومنا هذا. هذه المُشكلة هي التي أنزلت الناس إلى الشارع وهي التي وضع المُجتمع الدولي حلّها كشرط أساسي لأي مساعدة. إذًا بأي حق نذهب إلى خيارات أخرى قبل حلّ هذه المُشكلة؟
طرح الحلول عبر خفض سعر صرف الليرة والهيركات وتحويل جزء من الحسابات إلى الليرة وغيرها من الخيارات الأخرى هي حلول جزئية ولا توحي بأنها حلول مُستدامة! وهذا الأمر شبه محسوم. فالمعروف أن الفساد الذي إستفحل بعد إنتهاء الحرب الأهلية، تحصّن بمقولة «السلم الأهلي فوق كل إعتبار» والتي منعت مُحاسبة أي فاسد لأن مُحاسبته تعني إستهداف طائفته أو حزبه مع العلم أن هذا الشخص هو الفساد وليس طائفته.
كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم في لبنان فشلت في وضع حدّ لهذه الآفة خصوصًا حكومات ما بعد الطائف. ومُعظم الأجهزة الرقابية التي أنشأت، تمّ إنشاؤها على عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يملك أداة فعالة أنذاك هاجمها اللبنانيون لإعتقادهم أنها غير ملاءمة. إلا أن التاريخ أثبت أن العقاب هو الأساس في حسن سير المُجتمعات وتطبيق القوانين هو العامود الفقري لإستدامة الدولة.
التهاون في التعاطي مع الفساد في لبنان يُمكن تحليله من وجهة نظر سياسية بخطأ إرتكبه أصحاب القرار. هذا الأمر دفع بأصحاب القرار إلى أخذ قرار ثانٍ مبني على القرار الأول مما ينتج عنه سلسلة قرارات خاطئة عزّز من خلالها كل طرف موقعه. وبالتالي غياب المنطق الهدفي (Logique Objective) يجعل التنبؤ بالأحداث المُستقبلية شبه مُستحيل مما يعني تطوراً عشوائياً للأحداث مبنية على تعظيم الإستفادة الفردية للفاسدين على حساب المصلحة العامة.
أضف إلى ذلك، هناك مفهوم أخر عبث بالحياة اللبنانية وشكّل بيئة خصبة للفساد وهو مفهوم تضارب الروايات. هذا المفهوم يعمل كمصفوفة إجراءات (Matrice d’Action) ويسرد التاريخ بطريقة ينتج عنها سلوك معين لدى عامة الشعب مما يُعزّز المعارضة ويؤمّن إستمراراها. وليس بالجديد القول أن كل فريق سياسي في لبنان له روايته الخاصة عن الوقائع وبالتالي هناك تباعد شكلي في الروايات وتشابك مصلحي في بعض النقاط.
الفساد مُكلف كثيرًا على خزينة الدولة اللبنانية ولا يُمكن مُحاربته إلا من خلال ضغط داخلي أو خارجي وهذا ما يحصل حاليًا. إذًا كل ما على حكومة الرئيس حسان دياب هو البدء بمحاربة الفساد والقيام بالإصلاحات اللازمة لتصحيح وضع أنهك مفاصل الدولة وأضعف مؤسساتها وشل عملها الإجتماعي والإقتصادي.
عشرة مليارات دولار أميركي هي كلفة الفساد في لبنان. وعلى الرغم من الوضع المالي الحالي والأزمة التي يعيشها لبنان، ما زال هذا الفساد يعبث بالدولة على كل المستويات. كيف يُمكن للبنان أن يخرج من هذه الأزمة من دون محاربة الفساد؟ الجواب مُستحيل!
الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد، الجمارك، التهرب الضريبي، المنقاصات العمومية، التخمين العقاري، مؤسسة كهرباء لبنان، الإتصالات… كلها أماكن يعبث فيها الفساد وبحاجة إلى عناية من قبل الحكومة. وقد إمتلأ الإعلام بتصاريح المسؤولين الذين يتوعدون بمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين خصوصًا في السنوات الأخيرة، إلا أننا لم نشهد أي ترجمة لهذه الوعود على الأرض.
اليوم خلاص لبنان هو عبر محاربة الفساد. وحتى إذا طلب لبنان مُساعدة صندوق النقد الدولي، فإن أول ما سيطلبه الصندوق هو محاربة الفساد. إلا أن الفارق أن طلب الصندوق سيكون مُرفقًا بطلبات أخرى مُوجعة لن تمر دون تداعيات إجتماعية على المواطن اللبناني.
فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفي تصريح له، قال أن كل من مدّ يده على المال العام سيُحاسب. هذا التصريح يجب أن يكون بمثابة البوصلة بالنسبة لحكومة الرئيس حسان دياب، وأول ما يجب أن يكون على طاولة مجلس الوزراء هو خطّة مُفصّلة لمُكافحة الفساد في كل مؤسسات ووزارات الدولة اللبنانية. لقد وصل الأمر إلى مصداقية الدولة داخليًا وخارجيًا ويجب المُحافظة على نظافة سمعة الدولة لأن كتب التاريخ لن ترحم أحد.
عمليًا نرى أن أهم نقطة في خطة الحكومة هي البدء بمحاربة الفساد الذي سيدرّ إيرادات إضافية على الخزينة ويوفّر عليها أعباء غير مُجدية. ونتطلع بشغف لتفاصيل الخطّة التي من الواجب أن تضمّ إستقلالية القضاء وأجهزة الرقابة لما لهذه الأجهزة من دور أساسي في المحافظة على مؤسسات الدولة وعلى المال العام.
هناك مبادئ في الدستور اللبناني أهملتها السياسات الحكومية المُتبعة ومنها «قدسية المال العام»، «قدسية الملكية»، «تساوي المواطنين أمام القانون»… كل هذه المبادئ هي أسس يتوجّب إعادة تفعيلها في العمل السياسي لكي نأمل خلاص لبنان من أزمته الحالية.
لم يعد لبنان يملك ترف الوقت ومنعًا لإرتكاب أخطاء تراكمية، نرى أنه من الضروري إيلاء ملف مكافحة الفساد الأولوية في العمل الحكومي لأن في ذلك خلاص لبنان.
.