ستنطلق في الساعات المقبلة الورشة الجديدة لإعادة النظر في خطة الحكومة للتعافي المالي التي كانت تصرّ عليها في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، وذلك بعد ان تقرر بالإجماع إعادة النظر في أرقامها سعياً الى توحيدها مع بقية الخطط. وهو ما تُرجم باستدعاء وفد مؤسسة «لازارد» بموافقة الصندوق لـ»إقالة» الخطة بعد «استقالة» واضعها المدير العام لوزارة المال ألان بيفاني. كيف ولماذا؟
بعد 17 جولة رسمية من المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي تناولت مختلف وجوه الأزمة الاقتصادية النقدية التي تعانيها البلاد، فاجأت الحكومة اللبنانية بقرار اتخذته بالإجماع بإعادة النظر في الخطة الحكومية للتعافي المالي في إطار سعيها الى توحيد ارقام الخسائر وفق معادلة جديدة تأخذ في الاعتبار الخطط الأخرى، سواء تلك التي وضعها صندوق النقد الدولي او حاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف، بعدما أصرّ كل طرف على رؤيته وأرقامه المتباعدة التي تفصل في ما بينها – في ظاهرة لم يعرفها العالم والعلم من قبل – بعشرات آلاف التريليونات من الليرات اللبنانية، وهو ما جَعل الموقف اللبناني هزيلاً ومُربكاً الى أقصى الحدود امام وفد الصندوق والمؤسسات المالية التي قالت من قبل رأياً قاسياً وصريحاً في أداء الحكومات اللبنانية، وطريقة ادارة الموازنات العامة، وعجزها عن تصحيح الميزان التجاري، والفشل في إدارة الدين العام وحجم كلفته لألف سبب وسبب.
ليس في ما سبق أيّ خبر يمكن التوقف عنده بعد الإشارة الضرورية الى ما جاءت به الخطة الحكومية من تحديد لأرقام الخسائر في القطاع المصرفي بـ 241 ألف تريليون ليرة لبنانية متجاوزة أرقام صندوق النقد الدولي بـ70 تريليون دولار بعدما قدّرها بـ 171 تريليون ليرة، فيما قالت خطة مصرف لبنان وجمعية المصارف بنحو 107 تريليونات ليرة، اي بفارق 134 تريليون ليرة عن خطة الحكومة. وهو أمر عُدّ من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها الحكومة في حضورها امام وفد الصندوق بمجموعة أرقام متباعدة بمقدار كبير لا تجمعها اي مقاربة حتى مع الصندوق. ومَردّ ذلك الى انّ الفريق الذي أعدّها، وجمع الى المدير العام لوزارة المال الان بيفاني ومستشار وزير المال هنري شاوول بالتنسيق مع فريق رئيس الحكومة مُمثّلاً بمستشاره المالي جورج شلهوب، أدارَ ظهره لجميع الأطراف المعنية بالموضوع من مصرف لبنان الى وزارة المال وجمعية المصارف قبل ان يقول كلمته التي جرّدت القطاع المصرفي من حساباته، واعتبرت نسبة كبيرة من ديونه هالكة، وانتهت الى تبرئة الحكومة من أي خسائر يمكن ان تتحمّلها، وذهبت الى البحث عنها من حسابات المودعين.
وعلى رغم من مختلف الآراء التي تناولت الموقف اللبناني المُشتت، وعلى رغم مما جاء به تقرير لجنة تقصّي الحقائق المالية في لجنة المال او الموازنة النيابية من تخفيضات كبيرة على مضمون تقرير الحكومة، بقيت هذه الأخيرة مُصرّة على أرقامها الكبيرة حتى الرمق الأخير. وكل ذلك جرى سعياً لتغيير موقف الحاكم والمصارف من الخطة الحكومية، وهو أمر لم يحصل.
وقد حاول دياب ذلك بشتى الطرق، بما فيها الحملات الاعلامية التي خاضها رئيس الحكومة شخصيّاً ضد حاكم مصرف لبنان ومعه فريق من وزرائه باستثناء وزير المال وقيادات من «حزب الله» واصدقائه الذين شنّوا أعنف هجماتهم على ما سمّوهم بـ»حزب المصرف والمصارف» في مواجهة كل من دعا الى اعادة النظر في الارقام الحكومية من دون جدوى.
كل ذلك كان قائماً قبل ان ترجّح كفة الداعين الى تصحيح الأرقام الحكومية، باعتراف اولي من رئيس الحكومة حسان دياب الذي تحدث من الصرح البطريركي في الديمان قبل ايام عن مقاربة جديدة بكشفه عن «برنامج متحرّك يأخذ في الاعتبار وجهات نظر مصرف لبنان والمصارف ووزارة المال». وبعد هذه المفاجأة الحكومية جاءت مفاجأة أخرى بأن انضَمّ وفد صندوق النقد الى الداعين الى «البرنامج» الذي تحدث عنه دياب تَجاوباً مع رغبة اللبنانيين في اعادة النظر بالخطة بغية التوصّل الى رقم جديد يتزامن الاعلان عنه مع توليد خطة أخرى بعد استقالة عضوي الفريق بيفاني وشاوول اللذين كانا قد وضعا الخطة. وانضمام مجموعة من الخبراء الجدد الى فريق وزير المال لمحاكاة المرحلة بما يناسبها من توجهات. ولعل الخطوة التي اتخذها حاكم مصرف لبنان بالتزامن مع دعوة وفد مؤسسة «لازارد» للعودة الى بيروت لاستئناف مهمتها بتشكيل لجنة خاصة للبحث في هيكلة القطاع المصرفي من ابنائه هي مؤشر على ما تقول به الخطوة الجديدة لعلها تساهم في أسرع وقت ممكن في تحديد موجودات المصارف تسهيلاً للمهمة الأوسع وتحديداً لتقدير الخسائر بعد الموجودات.
وامام هذه الصورة البانورامية التي باتت تحكم الوضع المصرفي، فقد كشفت مصادر مالية ونقدية واسعة الاطلاع انّ وزراة المال، التي «بَصمَت» سابقاً على الخطة الحكومية، لم تعد في هذا الوارد وخصوصاً بعد استقالة المدير العام، وهي تنوي المشاركة بفاعلية في التقدير الجديد للخسائر بفريق عمل متجدّد بعدما تم تطعيمه بخبراء يفهمون شكل العلاقة الواجب قيامها مع صندوق النقد والمؤسسات المالية، والذي سيقود المهمة في المستقبل بالتعاون مع فريق «لازارد» ومصرف لبنان والجمعية. وكل ذلك يجري انطلاقاً من أرقام ومعادلات جديدة، أبرزها يستند الى وجود اكثر من 330 تريليون ليرة لبنانية في ارصدة المصارف، فيكف يجوز الحديث في الخطة «المقالة» عن 241 تريليون من الخسائر؟
وفي عناوين الخطة الجديدة بحث في أساليب مختلفة عن طريقة تعويض الخسائر المحققة، من الاموال المنهوبة والموهوبة التي لا يمكن تقديرها بسهولة في وقت قريب، عدا عن كونها إن تَمّت، فستبقى ارقاماً هزيلة وسخيفة قياساً على حجم الخسائر المحكي عنها وهو ما ينفي اهميتها. كما بالنسبة الى توفير نسبة من الخسائر من حسابات المودعين، والتي يجب عدم المَس بها، فلم يكن لأكثريتهم ايّ رأي في ما جرى في قرارات الإدانة او الإستدانة. وكل ذلك يجري على خلفية عدم تبرئة الحكومة والخزينة من تَحمّل نسبة من الخسائر، وهو أمر لا يمكن تجاوزه. فالتجارب الدولية قالت بـ»الصندوق السيادي» الذي ضَم الى البرنامج الجديد، والذي سينطلق برأسماله من اصول البعض من ممتلكات الدولة ومؤسساتها الاستثمارية.
يعرف الجميع انّ هذا البرنامج يحتاج الى عمل كثير وجهد إضافي من اجل تشكيل الصندوق الذي سيجمع في المرحلة الأولى ما يقدّر بـ 40 تريليون ليرة من حصّة الدولة بموجب «هندسة مالية» جديدة «لتصفير» خسائرها لدى مصرف لبنان والانطلاق من نقطة جديدة. وهي خطة تستدعي تقييماً لِما تساويه هذه المؤسسات كالمرفأ و»أوجيرو» وقطاع الاتصالات، وربما مؤسسة كهرباء لبنان والتي قد تستغرق أشهراً طويلة.
وبناء على ما تقدّم، وبصرف النظر عن الافكار المختلفة التي تضع «الصندوق السيادي» في عهدة مصرف لبنان أو في يد «هيئة إدارية» جديدة مستقلة، يفكّر أهل الحكم بوضع اليد عليها من خلال شخصيات تسعى الى هذه المواقع، ستبقى المفاوضات معلّقة مع الصندوق في هذه المرحلة انتظاراً للبَت بقانون «الكابيتال كونترول» و»التقييم الجديد للخسائر» من دون إغفال المعلومات التي تسرّبت عن احتمال استئناف المفاوضات معه تحت عناوين جديدة أبرزها مصير «موازنة 2020» بكل توقعاتها وما قالت به من تقدير فاشل للواردات والمصاريف، كما بالنسبة الى ملف الدين العام وطريقة إدارته، وهو ما ستظهر بوادره في الأيام المقبلة نفياً او تأكيداً.