لا ثقة بمناورات سلطة فاسدة ومشبوهة.. والمطلوب شيء واحد
مع إطلالة كل صباح تتكشف تباعاً أهوالُ المأساة التي أصابت بيروت، بشراً وحجراً. عدّاد الضحايا والجرحى والمفقودين والخسائر إلى ارتفاع، وهروب السلطة إلى العنف والتضليل إلى تعاظم، فيما المؤشرات المتجمعة في فضاء المشهد تَشي بأن الأمور باتت في مكان آخر.
في التقدير أن حسابات السلطة للفلفة الكارثة ورهانها على العنف والتضليل لطيّ الصفحة لم تنجح، كما أن نتائج زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وما ستحمله زيارة الموفد الأميركي دايفيد هيل تكشف أن ثمةَ متغيرات في طريقة تعامل المجتمع الدولي مع المسألة اللبنانية.
وما بين هذا وذاك يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: عرّى انفجار بيروت السلطة كاملة، عهداً وحكومة، من أي ورقةِ توتٍ كانت تراهن على التستر بها لتغطية الفشل والانهيار والنفاق والشعبوية، فالإرباك والتذاكي والانفصام والتناقض والاحتيال الذي طبع تصرفات السلطة بُعيد الكارثة زادَ من حجم هذا الانكشاف والارتهان إلى قوى الأمر الواقع. ماذا يعني أن تطلبَ السلطةُ دعماً دولياً لمواجهة آثار الكارثة، لكنها في الوقت عينه ترفض التحقيق الدولي في الانفجار وكأنها تخشى انكشاف شيء ما! لماذا لم تصدر السلطة بياناً تفصيلياً بما جرى بالرغم من مرور ستة أيام على الانفجار الكارثي، وما سبب هستيريا بيانات النفي وتبادل التهم المبطنة بين أركان الحكم، فبات كل من في الجمهورية لا علم له بأطنان «نيترات الأمونيوم» في المرفأ التي استحالت قنبلة نووية فجّرها الفساد والإهمال!
الواقع أن هذا ليس ضياعاً أو تيهاً لدى السلطة، بل مبالغة في الاستكبار والوقاحة التي بدأتها منذ اللحظات الأولى للمأساة مع تعميم خبريات التلحيم، والمفرقعات النارية، ثم احتلال الشاشات من قبل موظف كثير الكلام على مدى يومين لتوجيه الاتهام باتجاه معين، وصولاً لمقولة أن الانفجار الكارثي فكّ الحصار عن لبنان، والسعي لاستغلال التعاطف العربي والدولي مع جرح بيروت… هكذا وضعت السلطة نفسها في دائرة الشبهة.
ثانياً: الاستقالات الحاصلة في صفوف النواب والوزراء، لا تغير في مسار الأمور كثيراً، المهم هو ترويج رئيس الحكومة حسان دياب لطرح يقوم على منحه شهرين للتفكير بالاستقالة ووعده بطرح موضوع الانتخابات المبكرة على مجلس الوزراء، فالواضح أن الطرح لا يعدو كونه مناورة مفضوحة وخطيرة، لكسب الوقت وتضليل التحقيق واستيعاب غضبة الناس، وربما للتغطية على المتورطين الحقيقيين. المطلوب باختصار، وهو ما يجب أن يعرفه دياب جيداً ويدرك أن الشعب لن يقبل بأقل منه، هو استقالة هذه الحكومة، ومن بعدها استقالة رئيس الجمهورية والمجلس النيابي، والانطلاق بعدها لإعادة ترميم السلطة، وهو ما يفهم من كلام البطريرك الماروني بشارة الراعي والمطران الياس عودة أمس، حول الجريمة وتداعياتها والتحقيق الدولي ومحاسبة المتورطين وضرورة التغيير.
ثالثاً: الصدمة العربية والدولية من التفجير الإرهابي، الجريمة ضدّ الإنسانية مكتملة الأوصاف، والتي يمكن البناء عليها للتأسيس لموقف منحاز للشعب اللبناني في معركته ضدّ السلطة التي تحوّلت إلى سلطة قاتلة. فالمؤتمر الدولي الافتراضي الذي عقد أمس تحت عنوان «المؤتمر الدولي لتقديم المساعدة والدعم لبيروت والشعب اللبناني»، بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، تكمن رسالته الأبلغ في أن مرجعية المساعدات ستكون تحت قيادة الأمم المتحدة، أي أنها لن تصل إلى بيروت وتصبح في الأسواق وفي جيوب العصابة. لسان حال المجتمع الدولي يقرّع المسؤولين اللبنانيين بأنه لا يثق بهم، وأن ما بعد 4 آب ليس كما قبله. والواقع أن المجتمع الدولي تأخر كثيراً في هذه الخطوة.
رابعاً: ما بين تطورات الوضع اللبناني والمواقف الدولية التي تلاقي ديناميات الداخل ثمة جامع مشترك يشير إلى أن هذه السلطة، عهداً وحكومة، انتهت، وباتت في دائرة الشبهة، وأن عليها الرحيل.. لكن الأهم أن هناك ضرورة لصياغة استراتيجية للتعامل مع الواقع المستجد والمعقّد والخطير في آن. ففي مقابل ما يمكن أن تفكر أو تلجأ إليه السلطة دفاعاً عن نفسها ومصالحها، ثمة معطيات وازنة فرضتها زيارة ماكرون، والمواقف الدولية الأخرى، والحراك الداخلي ومواقف قوى الانتفاضة حول ضرورة التغيير بدءاً من استقالة هذه الحكومة وطلب تحقيق دولي شفاف بالتوازي مع التحقيق المحلي لكشف كل الحقائق ومحاسبة المتورطين، والتصدي لآثار الكارثة والتعامل بشفافية مع المساعدات العربية والدولية.
نحن أمام جريمة موصوفة، هائلة، كبيرة ولا يمكن تغطيتها. نحن بحضرة نحو 200 ضحية، وآلاف الجرحى وعاصمة مدمرة… مدمرة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، ما يجعل من عدد المتضررين يقارب المليون شخص، وعلى هؤلاء السعي سريعاً لتحضير شكوى قضائية، محلية ودولية، لتحصيل حقوقهم من كل متورط. أخطر شيء أن تظن السلطة للحظة أنها ستعيد انتاج نفسها وشرعيتها المنتفية من خلال التعاطف الحاصل جراء الكارثة.
ما بعد 4 آب ليس كما قبله، فالشارع وقوى الانتفاضة باتوا شركاء كاملين في أي عملية تغيير، بل هم أساس فيها، تمهيداً للدخول في فترة انتقالية تقودها حكومة مستقلة بصلاحيات استثنائية، في أولويات برنامجها، التحقيق وكشف الحقيقة، وطرح خطة انقاذية، والتحضير لانتخابات مبكرة، وإعادة الوصل مع العالم العربي والمجتمع الدولي.
سقطت الأقنعة البشعة، ولا يراهنن أحدٌ أن المجموعة المتحكمة سيرف لها جفن ولو دمّر البلد كله، ومعركة تحرير البلد من الهيمنة والفساد، وهما وجهان لقبح واحد، لم تتوقف. لقد أورث هذا العهدُ البائسُ اللبنانيينَ الفجيعةَ والحزنَ والجوعَ والإفلاسَ والأسى والذلَ، وكل ألوان الهوان والفساد والمحاصصة والزبائنية والكثير الكثير من الشعبويات الفارغة.. ولن يفكّ عنهم إلا قبل تحويل بلدهم إلى خراب يُحاكي دمار وخراب الحروب العبثية في نهاية الثمانينيات. خلعُ المنظومة مهمة أساسية، ومن ثم تحويلها للمحاكمة، والانطلاق نحو لبنان سيّد، مستقل يريح الشهداء في عليائهم ويمسح دموع الأمهات ويبلسم وجع المصابين وخسارة المتألمين.
بيروتُ المنكوبة تستحقُ الأحسن، ولبنان المتألم يستحقُ الأفضل.