… والخيارات محدودة بينها عودة «الكانتونات»!
اشتعال الشارع مسألة وقت وسط انكشاف عجز الحكومة عن السير بخارطة طريق إنقاذية وانسداد أفق المساعدات الخارجية
تخطّى النقاش في الأروقة السياسية سيناريوهات الحل التي قد تلجأ إليها حكومة حسان دياب للخروج من الأزمة، فذلك خارج الممكن مع حكومة مظلتها «حزب الله» وعهد يرعى ضرب النظام الاقتصادي الحر الذي شكّل ميزة لبنان، ويُبشّر بجمهورية ثالثة لا تستند إلى تطوير الجمهورية الثانية المرتكزة إلى الدستور واتفاق الطائف بل انقلاب كليّ عليهما. ما يتم البحث فيه اليوم يتناول مرحلة ما بعد الانهيار المحقق للدولة. فالمسألة هي مسألة وقت، قد يقصر أو يطول نسبياً، لكنه حاصل ما دام الممسكون بالقرار الفعلي مقتنعين بأنه لا يزال بالإمكان الصمود، والسير في الطرق الالتفافية والملتوية من أجل إطالة أمد إبقاء لبنان رهينة وورقة بيد إيران، وتالياً ساحة مضافة إلى ساحات المواجهة الممتدة من سوريا والعراق واليمن وغزة.
حين يحل أجل الانهيار ستكون له تداعياته. ملامحه بدأت منذ زمن، مع تفشّي جشع المحاصصة والفساد الموصوف بين أركان الحكم تحت رايات عدة، كان أكثرها خبثاً وتدميراً راية استرجاع حقوق المسيحيين مصحوبة بتواطؤ مدروس هدف إلى خلخلة مرتكزات «وثيقة الوفاق الوطني» وتفريغها من محتواها بغية فرض أمر واقع مستقبلي بالبحث عن صيغة جديدة، تكون «المثالثة» أهون شرورها. وتيقنت منه السلطة الحاكمة يوم خرج اللبنانيون في 17 تشرين الأول إلى الشارع. كان يمكن أن تُشكّل استقالة حكومة سعد الحريري فرصة تُجنّب البلاد درب الآلام الذي سيسلكه شعبه، لكن استمرار المكابرة أفضى إلى حكومة دياب.
وما يزيد من حراجة الوضع، وفق متابعين، أن رعاة الحكومة يدرجونها في خانة «الحكومة الانتقالية» أو «حكومة الوقت المستقطع» إلى حين تبلور مسار التطورات الإقليمية على وقع نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتعاملهم معها على هذه القاعدة سيُسهم في مضاعفة أسباب فشلها المنتظر. فكيفية مقاربتها الديون السيادية، مع التخلف عن سداد استحقاق «اليويوبوندز» في التاسع من آذار، من دون خطة مُعلنة وطلب مساعدة صندوق النقد الدولي ومفاوضات مسبقة مع الدائنين، دلت على افتقارها لقرار السير في «خارطة الطريق» الإنقاذية المعروفة بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، أو تكبيلها من رعاتها لاتخاذ تلك الخطوة. لكن النتيجة واحدة في الحالتين، ذلك أن سياسة «الهروب إلى الأمام» ستبقى النموذج المُتبع لتمرير الوقت.
وضع الجيش في مواجهة الناس خيار لا يستقيم طويلاً…وتوقّف صندوق الضمان الاجتماعي عن الإيفاء بالتزاماته قد يكون شرارة الانفجار
ومما زاد في تهشيم صورة الحكومة سريعاً، ارتباكها في التعامل مع فيروس «كورونا» الذي كان يتطلّب منها تطبيق الإجراءات الاحترازية منذ اليوم الأول بوقف حركة الملاحة مع الدول التي ضربها الفيروس، ولا سيما إيران، وإقفال المعابر البرية مع سوريا، لاحتواء الوباء، وهو ما لم تفعله من منظور سياسي لرُعاتها، بحيث سيدفع اللبنانيون كافة ثمن هذه الحسابات، في وقت لا إمكانات مالية وتقنية للبنان الرسمي للتعامل مع هذا الوباء. وإذا كان الحجر الذاتي لوباء «كورونا» سيؤدي إلى همود حركة الشارع مؤقتاً، فإن ما سينتج عنه من مآسٍ ومضاعفات، معطوفاً على الضائقة المالية والاقتصادية والاجتماعية، سيكون عامل توقّد وتأجّج للحراك الشعبي.
فوضع الحكومة الهشّ سينكشف كلياً حين تُعلن المؤسسات التابعة للدولة التوقف عن العمل. والأعين تتّجه إلى «صندوق الضمان الاجتماعي»، الذي يدور حديث في الكواليس عن قرب إعلان عجزه عن الإيفاء بالتزاماته تجاه المواطنين المضمونين لديه، وهو ما يطال موظفي القطاعين العام والخاص. وهذا سيصيب غيره من «الصناديق» الضامنة. كما أن المخاوف ستحوم أيضاً حول رواتب موظفي الدولة، وعندها لن يكون بالإمكان التكهن بالتداعيات.
الحديث عن التداعيات يتجاوز الآثار الاقتصادية والاجتماعية إلى الأمنية. فاشتعال الشارع هو أيضاً مسألة وقت، ما دامت غالبية الشعب اللبناني ستصبح تحت خط الفقر، وما دام الأفق مسدوداً، وحال الإحباط العام إلى تزايد. لكن السؤال هو: كيف سيحصل الصدام؟ فوضع القوى الأمنية ولا سيما الجيش في وجه الناس خيار لا يستقيم طويلاً، لأن تكرار الصدامات سيؤدي حكماً إلى إراقة دماء بين الجيش وأبنائه والقوى الأمنية وناسها، الأمر الذي سينقل البلاد إلى مستوى آخر من القبضة الأمنية والقمع، مما سيؤدي إلى توترات في الداخل ومع المجتمع الدولي، والدول التي لا تزال تُشكّل غطاءً للمؤسسات العسكرية والأمنية وتُقدِّم لها الدعم.
السيناريوهات المُتداوَلة قاتمة. فوسط حكومة ضعيفة بلا سند عربي ودولي، وبغياب القدرة على الحصول على مساعدات خارجية ما دامت عاجزة عن ولوج الإصلاحات المطلوبة اقتصادياً ومالياً، وما دامت لا تلتزم فعلاً سياسة النأي عن المحاور، فإن الخيارات محدودة في ظل الاختلال القائم في موازين القوى السياسية، بين «ثنائي شيعي» يُمسك بالقرار الفعلي للبلاد وتحت مظلته يتمترس فريق رئيس الجمهورية، وبين قوى سياسية يمثلها «المستقبل» و«القوات» و«الاشتراكي» متفرّجة أو عاجزة أو مُنتظرة.
فالاتجاه الذي سيحكم البلاد، في الأشهر المقبلة، هو الفوضى. وعلى وقع الفوضى المتنقلة والجزئية أو الشاملة سترتسم ملامح الخيارات، وما إذا كانت ستؤول إلى عودة مُعلنة أو مُقنّعة للأمن الذاتي وزمن التقسيم و«الكانتونات»، استكمالاً لما نشهده اليوم من «إدارة مدنية» تعمل على توفير الأمن الاجتماعي ولو بالحد الأدنى بديلاً عن الدولة نتيجة الأزمة الاقتصادية، أم أنها ستذهب في اتجاه إعلان حالة طوارئ عسكرية، وحكومة انتقالية – قد تكون عسكرية أو مختلطة أو مدنية – لترتيب انتخابات رئاسية أو نيابية تُعيد إنتاج سلطة سياسية جديدة. ما هو أكيد، في رأي المتابعين، أن الموقف العربي والدولي من لبنان وتطورات المواجهة الدائرة في المنطقة سيكون لهما تأثيرهما المباشر في تحديد طبيعية الخيارات المقبلة!.