يتصرّف الرئيس ميشال عون وصهره رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل على أن «العهد القويّ» ماضٍ في طريقه وأنه يحقـّق «الإنجازات»، ولا يرى فريقه في ما يجري ثورةً ولا انتفاضة ولا حتى تظاهراتٍ تستحقّ الإستجابة لها، وأنه سيتم اتخاذ كل الإجراءات لضمان إستمرار «صهر الجمهورية» في السلطة. فالعهد سينجز مرحلةً إنتقالية تضمن وصول باسيل إلى رئاسة الجمهورية، مهما تكن العوائق والأثمان.
لهذا، يعتبر الرئيس عون أن ما جرى إتخاذُه من إجراءاتٍ في مواجهة الشارع حتى الآن غير كافٍ، وقد وجّه ملاحظاتٍ غير مباشرة لقائد الجيش العماد جوزاف عون، في الإجتماع الأمني الأخير في قصر بعبدا، معتبراً أنه ممنوع العمل بعد الآن بالعواطف، ويجب العمل كعسكر في الميدان.
«الداخلية» في منظومة العهد
ومن الواضح أن الإتيان بالعميد محمد فهمي إلى وزارة الداخلية ليس بريئاً، وهو الذي كان يشغل مركز رئيس الأمن العسكري في عهد اميل لحود وكان من المقربين إلى مسؤولي النظام السوري، ويبدو أنه لا يزال في هذا الإطار، وعلى هذه الخلفية وصل إلى وزارة الداخلية.
وحسب ما تناقلته بعض الأوساط، فإن «ميزة» فهمي ستكون «قدرته» على إستعمال القمع العنيف ضد المتظاهرين، ولو أدى ذلك لإسالة الدماء، لأن هناك من في السلطة من يعتقد أنه لا حلّ إلا بالقمع الدموي للثورة، ونقلت بعض المصادر أنه أبدى استعداده لـ«تنظيف الساحات خلال أيام» مستعيناً بحالات الصدام السائدة خلال الأيام الأخيرة في وسط بيروت، وبالتطرف الشيعي الذي يتصاعد من الخندق الغميق ومن عشائر البقاع الشيعية التي تسعّر التصعيد الميداني والكلامي بخلفيةٍ مذهبية فاقعة كعاملٍ ضاغط لفرض «الإستقرار».
كما أن مسارعة مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان إلى زيارة الوزير محمد فهمي في منزله، بعد عودة الحديث عن احتمال إقالته، يحمل مؤشراً على استعداد عثمان لمواكبة السلطة الجديدة في سياساتها الأمنية، إذا لم يكن الإستعمال المفرط للقوة الذي مارسته قوة مكافحة الشغب خلال الأيام الماضية رسالة عملية وأوراق اعتماد لتأكيد توجهات عثمان في هذا الإتجاه.
وزارة الدفاع والضغط على قائد الجيش
لم تختلف عملياً الإدارة السياسية لوزارة الدفاع بين الوزير الياس بوصعب (القومي) والوزيرة (القومية) زينة عكر.
ترك بوصعب للوزيرة الجديدة نزاعاً متفاقماً مع قائد الجيش، تحت ذريعة «تحسين العمل الاداري في المؤسسة العسكرية» بعد أن خاض نزاعاً طويلاً مع العماد جوزاف عون لنزع صلاحيات القائد وإلحاقها بوزير الدفاع، وتقليم قدراته، لصالح الوزير السابق جبران باسيل الساعي لإقصاء العماد عون من السباق الرئاسي، بحجة أن «قوانيننا قديمة وقانون الدفاع صدر منذ 36 عاماً، ونحن أنجزنا المراسيم التطبيقية لإقراره ووضعناه بعهدة وزيرة الدفاع لتكمل هذه المهمة»، واعتبر أنه حافظ على «صلاحيات وزير الدفاع، وهذا موضوع حساس جدا.. لقائد الجيش الدور الأوحد القيادة، كما تحدث البعض على إعطاء أمر بالتعاطي مع المتظاهرين بعنف، ويبدو الأمر كأنه من وزير الدفاع.. بينما هو مسؤول عن الأمور الإدارية والتواقيع التي تسيّر أمور الوزارة».
من الواضح أن بوصعب تصرّف خلال مغادرة الوزارة بحسابات النائب الذي سيحتاج إلى الخدمات بعد حين، لهذا كان حريصاً على توضيح مسألة الإمرة والمرجعية في العمل الوزاري، لكن الحقيقة في مكانٍ آخر. فالضغوط من بوصعب ومن الوزير جبران باسيل لم تتوقف، وتركت آثارها على المؤسسة العسكرية، ويبدو أن هذا الواقع سيستمر مع الوزيرة الجديدة الآتية من المدرسة القومية نفسها.
ملامح المشهد الأمني المستجد
يتجه المشهد الأمني نحو تغييراتٍ جذرية هدفُها اعتماد سياسات جديدة، تقوم على القمع والحسم العسكري، وفرض إنخراط الجيش في هذه الإستراتيجية القامعة، وذلك من خلال الخطوات الآتية:
– تشكيل غرفة عمليات مشتركة لجميع الأجهزة الأمنية، وصولاً إلى قرار موحد يشمل الجيش، بحيث يتم حسم الموقف بالإستناد إلى قرارٍ سياسيّ صارم.
– التذرّع بالمجموعات «التخريبية» لتصعيد العنف ضد جميع المتظاهرين وإستهدافهم وإنهاء الثورة وإخلاء الساحات، ونزع الشرعية عن الثوار وتحويلهم إلى «مشاغبين».
ورأت مصادر متابعة أن تعبير «التمييز بين المتظاهرين السلميين والمشاغبين» هو بمثابة كلمة الحق التي يراد بها الباطل. فلو أرادت القوى الأمنية التمييز وإتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، لكانت مارست سلطتها على جحافل الثنائي الشيعي عند إجتياحها ساحتي الشهداء ورياض الصلح، بدل إتخاذ موقف المتفرّج بل المتواطئ في بعض الأحيان، ولما وصل قمعها إلى الإعتداء على المراسلين الصحافيين والإعلاميين خلال تغطيتهم الأحداث.
كما أن التمييز بين «المشاغبين» والسلميين ممكن من خلال تقييم الأفعال في الساحات والشوارع. كما أن لمعالجة الإضطرابات قواعد وأصولاً يجب على القوى الأمنية إلتزامها كما أعلن نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف، بعد الكشف عن أن قوى مكافحة الشغب إستخدمت رصاصاً مطاطياً منتهي الصلاحية بحيث تحول بلاستيكياً، في ملاحقة المتظاهرين، وإستعملته بشكلٍ مباشر على الوجه، متسببة في فقئ العيون وثقب الأجساد بطريقة وحشية.
– أطلق الإعلام على أسلوب قوات الإحتلال الإسرائيلي في قمع الإنتفاضة الفلسطينية في الثمانينات «تكسير العظام»، واليوم يمكن تسمية ممارسات القوى الأمنية بأنها عملية «فقىء العيون» و«صيد البشر».
– حسم الموقف في الشارع مع من يعتبرهم عون وفريقه مشاغبين، وذلك بتصعيد القمع تجاههم، بحيث يتم تسويق خطورة الإصابات التي ألحقتها القوى الأمنية بالمتظاهرين على أنها من ضرورات حفظ الأمن كما أعلن وزير الداخلية الجديد، الذي شرّع إستعمال العنف بذريعة حماية الممتلكات. إلا أنه تغافل عن أن أمر الحماية يأتي أحاديّ الاتجاه، وللتطبيق على فئة محدّدة تعارض السلطة، أما الفئات الأخرى المخرّبة المنفلتة الموالية للسلطة، فهي خارج الملاحقة والمحاسبة.
– ملاحقة الثوار وتسطير مذكرات التوقيف بحقهم ومداهتمهم في المنازل والمؤسسات، وتقديمهم للمحاكم وإصدار أحكام بالسجن عليهم، لإرهاب بقية الثوار والحدّ من إندفاعتهم في الشارع، وإنهاء مرحلة إطلاق سراحهم بدون محاكمات.
خريطة الطريق نحو إسالة الدماء والخراب
من خلال استقراء المستجدات الحكومية، يمكن الوصول إلى إستنتاجين حاسمين:
– إن الهدف الأمني هو ضرب الثورة من خلال تفخيخها وشيطنتها وإثارة النعرات الطائفية والمناطقية فيها. ولو من خلال إسالة الدماء، حيث تبدي أوساط متابعة خشيتها من تكرار المشهد العراقي، الذي يسقط فيه القتلى والجرحى بالعشرات والمئات، وتتحوّل الضحايا لأرقامٍ تقرّب البلد نحو هاوية الحرب.
– أما الهدف السياسي، فهو تثبيت العهد وإعتبار كل ما يجري غير ذي قيمة، بانتظار فرصة وصول جبران باسيل إلى الرئاسة.
وكلا الهدفين، خريطة طريق شديدة الوضوح لسفك الدماء وإيقاع الفوضى عن سابق الإصرار والتصميم، وهو التحذير الذي دأب على إطلاقه النائب نهاد المشنوق من بين صفوف السياسيين، بناءً على معلومات بات اللبنانيون مدركين لخطورتها، باستثناء طبقة حاكمة عمياء صمّاء عن كارثة تضرب البلد وقد تطيح بكل ما فيه من مؤسسات مكوّنة للدولة.