IMLebanon

خطاب دياب.. عموميات لم تُقدِّم بدائل ولا تعالج هواجس

 

بانتظار ردّ المصارف والدائنين الدوليين

 

قرار لبنان بتعليق سداد استحقاق سندات «يوروبوندز»، والتي كانت تستحق اليوم، وإن كان متوقعاً نظراً لضيق الخيارات، بل انتفائها، لكنه يثير أسئلة وهواجس كثيرة، خصوصاً وأن هذا «الحل» ومفاده تخلّف الدولة عن التزاماتها مع الدائنين الخارجيين، بسبب سوء إدارة الشأن العام وفساد الطبقة السياسية التي نهبت مالية الدولة، سيترك بلا شكّ تداعيات كبيرة، وإن كان في مكان ما خطوة في الاتجاه الصحيح.

 

في كلمته غير المقنعة، يعلن رئيس الحكومة حسان دياب وبحضور الوزراء تعليق دفع سندات «يوروبوندز»، سائلاً «كيف يمكننا أن ندفع للدائنين ونترك المستشفيات تعاني من نقص في المستلزمات الطبية؟ أو لا نستطيع تأمين الرعاية الصحية للناس؟ كيف يمكننا أن ندفع للدائنين وهناك أناس على الطرقات ليس لديهم المال لشراء رغيف خبز؟»، هكذا يوحي دياب بأن هذا القرار اتخذ بناءً على تحسّس آلام الناس، وكأن الدولة تسهر على تأمين الخدمات أو الرعاية الصحية أو حاجات المحتاجين، أو تحرص أصلاً على صون كرامة مواطنيها التي انتهكت على أبواب المصارف؟

 

إنشائيةٌ وتسطيحٌ وإمعانٌ بتجاهل حقيقة الأزمة وتجهيل المذنبين.. لكنها أيضاً تستبطن ما هو أكبر، فللمرة الأولى في تاريخه الحديث يتخلف لبنان عن سداد ديونه، أي يفتح الباب لإعلانه دولة متعثرة (وهي أصلاً مفلسة وموبوءة وفاشلة)، مع ما تجرّه هذه الصفة من تداعيات سلبية حاضراً ومستقبلاً، على سمعة لبنان، وعلى التصنيف الائتماني للدولة والثقة بها، خصوصاً وأن دياب أكد «الذهاب إلى خيار هيكلة الدين في المرحلة المقبلة بالتفاوض مع الدائنين» وهذا يحتاج ثقة قبل أي أمر آخر.

 

أسئلة ضرورية

 

قرار دياب وحكومته، يطرح أكثر من علامة استفهام؛ هل هذا الخيار هو القرار الصائب الذي يراعي مصالح لبنان وسمعته ومصالح المودعين، أم فرضته ضغوط سياسية من جهات مهيمنة على قرار الحكومة، خصوصاً وأن الجميع يعلم أن الثنائي الشيعي لم يفتأ يحذر من مغبة المضي بخيار التسديد، والتهويل من اللجوء إلى صندوق النقد؟

 

وطالما أن احتياط لبنان من العملات الصعبة بلغ مستوى حرجاً، كما أخبرنا رئيس الحكومة، كيف ستتفاوض حكومته مع الدائنين، وهل ستتجاوز تهويل الثنائي وتتوجه إلى حيث توجد العملة الصعبة، أي صندوق النقد، علماً أنه لا يمنح أمواله إلا وفق شروط والتزامات باتت معروفة، وأهمها محاربة الفساد والمضي بالاصلاح بشكل شفاف وصادق وليس على الطريقة اللبنانية العريقة في الالتفاف على الكلام والتعهدات والالتزامات؟

 

الجميع يعلم أن ليس أمام الحكومة إلا التخلف عن السداد، ليس دلعاً أو ترفاً، بل لأن لا خيار آخر متاحاً، فلماذا لم تصارح شعبها والدائنين والمجتمع الدولي بهذا الواقع إلا قبل ساعات من حلول موعد الاستحقاق؟ ألم يكن من الأجدى أن تخوض الحكومة قبل شهر مثلاً مفاوضات شفافة وصريحة مع حاملي السندات من الجهات الدائنة توصلاً لتفاهم يحدّ من الآثار السلبية لهكذا قرار؟

 

حدثنا رئيس الحكومة عن «عدو يمارس السطو على حاضر اللبنانيين ومستقبلهم»، وأكد بحزم «خوض معركة استقلال جديدة»!! من هو هذا العدو؛ المصارف، الجهات الدولية الدائنة، الفساد، الطبقة السياسية، منطق السلاح والهيمنة والفساد والمحاصصة؟ ألم يكن من الحكمة أن يتوجه رئيس الحكومة إلى الجهات الدولية الدائنة، وليس إلى اللبنانيين حصراً، فالمشكلة المشكو منها ليست معهم بل مع مؤسسات وحكومات وثقت بلبنان، دولة وحكومة، واشترت سندات على هذا الأساس، فلماذا يتنكر لبنان اليوم باللجوء للحديث العاطفي بدل التوجه للمؤسسات والدول والجهات المانحة؟

 

إيجابيات خجولة

 

يعتبر رئيس الحكومة أن «النموذج الاقتصادي الذي أرسته السياسات السابقة، أثبت عجزاً..»، صحيح، ولا جدال في ذلك، لكن أليس هناك شقاً سياسياً للمشكلة الاقتصادية والمالية، لسلطة اختارت الصدام واللف والدوران وبيع الكلام مع المجتمع الدولي والشرعية الدولية؟ أليس قرار التخلف عن السداد مصادمة للشرعية الدولية المالية، والدخول في مصادمة جديدة مع العالم كرمى لمحاور وأجندات لا تمت إلى المصالح الوطنية والداخلية بصلة؟ هل من مصلحة اللبنانيين، الذين يتحدث رئيس الحكومة عن مآسيهم، الدخول بهكذا صدام؟

 

أما قول الرئيس دياب «لبنان الغد سيرتكز أكثر وأكثر على الزراعة والصناعة والمعرفة والتكنولوجيا، إضافة إلى قطاعاته التقليدية في التجارة والسياحة والخدمات»، فيحار المرء بالغضب أو التعجب منه، ألا يدرك دولة الرئيس أن لا ازدهار ولا اقتصاد ولا تنمية من دون استقرار وسيادة وهيبة ودولة وثقة، ومن دون علاقات مستقرة مع العرب والعالم؟ وأن المشاكل العميقة التي تضرب لبنان لا تواجه بالخطابات العاطفية بل بالخطط والقرارات والمبادرات؟

 

صحيح أن «الفساد كان خجولا فأصبح جريئا ثم وقحا ثم فاجرا»، لكن دياب لم يطرح حلولاً وبدائل، أما كلامه عن تغيير النمط الاقتصادي فيحتاج، إن صفت النوايا، عمراً لانجازه، والوضع الحياتي بات يحاكي، من دون مبالغة، مقدمات الانفجار الكبير الذي سيكون أكبر مما يتخيله البعض.

 

ثمة أمر وحيد في كلام رئيس الحكومة يمكن وضعه في خانة إيجابية ولو بمدلول سلبي، وهو أن السلطة التنفيذية اعترفت للشعب اللبناني بما أخفته عنه الحكومات المتعاقبة التي امتهنت الإستدانة وبيع الأوهام، أي قبل نحو ربع قرن، إلى أن وصل لأن يكون «البلد الأكثر مديونية في العالم»، بحسب رئيس الحكومة، مع دين عام يبلغ 90 مليار دولار، بما يشكل 170 بالمائة من الناتج المحلي، ومع تقديرات للبنك الدولي تفيد بأن أكثر من 40 بالمائة من السكان قد يجدون أنفسهم قريباً تحت خط الفقر!!

 

المطلوب.. تجديد الثورة

 

وبانتظار تبيان ردّ المصارف وحاملي السندات من الجهات الدولية، سيبقى الوضع الداخلي يدور في الحلقة المفرغة؛ فالمصارف ليست بريئة من تهمة الجشع ومراكمة الأرباح الفاحشة على حساب صغار المودعين وبتواطؤ مع الجهات الناظمة لعملها، حتماً، لكنها ليست مسؤولة لوحدها عن الوضع الحالي، فهي نفذت طلبات – أوامر السلطة (بجميع مكوناتها) بتمويل إصدار السندات قبل نهبها من قبل الحكومات المتعاقبة بحجة الاستدانة. الآن، تدّعي الحكومة أنها لا تريد سداد الاستحقاق خوفاً على مصالح الناس، وتدّعي المصارف أنها ليست هي المسؤولة عن الانهيار المالي والنقدي بل السياسات المالية والاقتصادية الحكومية، وأنها لم تنهب أموال المودعين عندما حوّلت ودائعهم إلى مصرف لبنان الذي استخدمها في تمويل هدر الدولة!! وما بين هذا وذاك ضاعت حقوق الناس، وودائعهم وثقتهم بدولتهم وبكل كلام يصدر عن الطبقة السياسية.

 

المشكلة الأساس، فقدان الثقة، الداخلية والخارجية، وعنها تتفرع بقية التفاصيل. قرار الحكومة كان متوقعاً، لأن لا بديل عنه أمامها، إزاء واقع العزلة والإفلاس والفساد الناخر حتى الصميم في كل مفصل من مفاصل البلد، المطلوب، عاجلاً أو آجلاً، تغييراً عميقاً في تركيبة السلطة، وإعادة بنائها وفق أسس ورؤى جديدة بعيداً عن الأساطير التي تأسّس عليها النظام «السابق» الذي نزعت الانتفاضة شرعيته، ومن ثم محاسبة كل من تورط بنهب مال الدولة، وهذا يحتاج خطوات عدة، منها، تجديد روح الانتفاضة، وخصوصاً شعار «كلن يعني كلن»، والمضي لإقرار قانون انتخاب جديد تليه انتخابات مبكرة فحكومة ذات مصداقية، وهذا يحتاج أيضاً دعماً ومباركة ومساعدة من المجتمعين العربي والدولي… وإلا فالآتي أسوأ. ولله الأمر.