الكل يدعو إلى الحوار وإلى التوافق لانتخاب رئيس جديد للبلاد. لكنّ الجلسات الـ 12 الماضية تدل على أن أحداً لا يشرح للناس معنى الحوار الذي يريده، ولا كيفية حصوله. وفيما تمسّك الفريق الداعم لسليمان فرنجية بمرشحه، تنقّل الفرقاء الآخرون بين عدة مرشحين، حتى حصل «التقاطع» على جهاد أزعور. بعد جلسة الأربعاء الماضي، عاد بعض أطراف هذا «التقاطع» إلى الحديث عن الحوار، مع تلميح علني وتصريح ضمني بالاستعداد للتخلي عن أزعور. بينما أعلن حلفاء فرنجية تمسّكهم به. يحصل كل ذلك، فيما يفرك قائد الجيش العماد جوزيف عون يديه، مُصِراً على أن كل ما يحصل إنما يثبت النظرية التي تقول إنه وحده من يمكن أن يكون محل توافق فعلي، ولو قسرياً، بين الجميع.
الانقسام السياسي القائم يسهّل رسم خريطة واقعية لتموضع الجميع. فالنواب الـ 32 الذين وقّعوا بيان دعم أزعور يمثلون خياراً سياسياً واضحاً، له هدف مركزي يقضي بمنع أي مرشح مدعوم من حزب الله من الوصول إلى قصر بعبدا، وهم يريدون تحقيق هذا الهدف بكل الأسلحة الممكنة، بما فيها الاستعداد للتقاطع مع خصوم أساسيين مثل التيار الوطني الحر أو بعض «التغييريين».
من جهته، يقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وسط الحفلة متمسّكاً بخصوصيته، ويريد من كل ما يحصل تثبيت موقعه في المعادلة المفترض أن تحكم لاحقاً. فهو لا مشكلة جوهرية له مع فرنجية، وإذ ينظر إليه كخصم من زاوية علاقته بالرئيس السوري بشار الأسد، إلا أنه لا يرى فيه خطراً على تمثيل الدروز أو على حصتهم في النظام، ولا منافساً يومياً في جبل لبنان. وجنبلاط غير معنيّ أساساً بكل نقاش الآخرين عن القيادات التقليدية والإقطاع وخلافه. كما أنه، وهو المهجوس حالياً في كيفية توريث نجله تيمور، لا يبحث عن خصومات جديدة، ويتصرف مع المعركة الرئاسية بما يعزز موقعه. لذلك، يرفع سقفه للحصول على ردود فعل مناسبة له، سواء من حزب الله داخلياً، أو من السعودية خارجياً. غير ذلك، فإن من يسمع كيف يتحدّث جنبلاط عن سمير جعجع وجبران باسيل وسامي الجميل، وحتى عن «التغييريين»، يعتقد لوهلة بأنه من سرايا المقاومة!
الحالة الخاصة تتعلق بالتيار الوطني الحر بقيادة النائب جبران باسيل. والأخير لديه برنامجه المتشعّب الخاص ليس باسم الرئيس فقط، بل بآلية الحكم في المرحلة المقبلة. هو لا يخفي سعيه إلى حفظ نفوذه كقوة سياسية أساسية داخل مؤسسات القرار، لكنه ينظر إلى المعركة الرئاسية من زاوية أنه في ظل عدم إمكانية توليه هذه المسؤولية، وعدم قدرة فريقه القدرة على إيصال أحد قياداته إلى بعبدا، فإنه يريد أن يكون شريكاً في اختيار الرئيس المقبل، مع حق الفيتو في حال حصل خلاف مع الشركاء على اختيار هذا الاسم أو ذاك.
وفق هذه القاعدة، بنى باسيل استراتيجيته الخاصة بالرئاسة. وهو عندما سمع موقف حزب الله بدعم ترشيح سليمان فرنجية، اعتبر أن من حقه كشريك أساسي أن يحاول إقناع الحزب بأن الخيار غير صائب. وقدّم باسيل خلال اجتماعه الشهير مع السيد حسن نصرالله مطالعة طويلة، جعلت الأمين العام لحزب الله يقول له: جئت إلى الاجتماع ومعي مطالعة مفصّلة أُعدّت في مجلس شورى القرار في الحزب، وسأعود إليهم مع مطالعتك. ولكن، فَلْيُعْطِ بعضُنا بعضاً مزيداً من الوقت، ولنَعُدْ إلى النقاش. وانتشرت من يومها عبارة «للحديث صلة». إلا أن ما حصل لاحقاً، بالشكل أو بالمضمون، كانت له نتيجة واحدة، وهي أن باسيل استخدم ما يعتبره حق الفيتو، معلناً رفضه فرنجية. ونقطة على السطر.
مع الوقت، بدا أن باسيل متمسك بقراره، وتحوّل إلى شرط مُسبق لأي حوار جديد مع الحزب أو غيره من داعمي فرنجية. وهو اعتبر أن الحوار لا يكون مفيداً أو مثمراً إلا بتخلي الحزب عن دعم فرنجية، وفتح الباب أمام الحوار للوصول إلى اسم جديد. وهذا الموقف بقي قائماً، وهناك مؤشرات إلى أن باسيل اعتبر نتائج الجلسة الأخيرة، بمثابة تأكيد على وجهته هذه، وأنه سيكون أكثر تمسكاً بمطلبه إطاحة فرنجية. لكنّ هذه المؤشرات ليست كافية لحسم الموقف، ولا بد من انتظار بعض الوقت، لمعرفة التقييم الفعلي لباسيل، ليس لجلسة 14 حزيران فقط، بل لأمور وسياسات كثيرة. وعندها يظهر إن كان متمسكاً بموقفه أم لا، لأنه في حال بقي عند مطلب إطاحة فرنجية، فإن حزب الله سيقرأ الأمر على أن باسيل يضع شرطاً تعجيزياً لاستئناف الحوار، خصوصاً أن الحزب الذي كان صريحاً وحاسماً في المرحلة الماضية بأنه لن يتخلى عن فرنجية، وأنه لم يسمع ما يقنعه بذلك، يقرأ نتائج الجلسة الأخيرة بما يجعله متمسكاً بفرنجية أكثر من أي وقت سابق.
واضح أن الجميع ينتظر الخطوة الأولى لاستئناف الحوار، سواء بين جنبلاط وحزب الله ولو عن طريق الرئيس نبيه بري، أو بين حزب الله والتيار الوطني الحر مباشرة، من دون حاجة إلى وسيط. لكن، بات واضحاً أنه لا يمكن توقّع انطلاقة حوار جديد بين الحزب والتيار ما لم يتم تعديل المقاربة. بمعنى، أن الحزب لا يقبل الشروط المسبقة بسحب فرنجية، وهذا أمر أساسي، وإذا لم يتجاوزه باسيل، فسيكون من الصعب إطلاق حوار جدّي وبنّاء. ومن جهة ثانية، يجب على الحزب الاستعداد للتخلي عن فكرة أنه ليست هناك خطة ب.
واقع الحال، أن الجلسة الأخيرة كانت مناسبة لاستعراض كل قوة لقدراتها في هذه المعركة. وبناءً عليه، يمكن للحزب أن يتحاور مع التيار أو غيره، على قاعدة أن لدينا مرشحنا ولديكم مرشحكم، وتعالوا نتحاورْ في العناوين الأساسية، ونسقط المهام على هذا الاسم أو ذاك. وفي هذه الحال، يمكن لأحد الطرفين إقناع الآخر بوجهة نظره. لكنّ نجاح هذه المهمة، يتطلب إبداء الطرفين الاستعداد لتغيير الموقف الحالي. أما في حال كان كل منهما يريد الحوار لإقناع الآخر بموقفه فقط، فهو حوار لا معنى له، وسيكون لفشله الأثر الذي يزيد من تعقيد الأمور سياسياً وشعبياً.
فرصة الحوار الجدّي بين الحزب والتيار لا يمكن استغلالها إلا بقرار واعٍ، من الطرفين، بإسقاط كل الشروط المُسبقة دفعة واحدة. غير ذلك، لن يكون لهذا الحوار أي معنى، وسينتظر الطرفان التطورات الجديدة داخلياً وخارجياً، قبل أن يتوجه الجميع مرة جديدة إلى المجلس، من أجل تمرين جديد على انتخاب الرئيس.