طالما الفراغ الرئاسي سيطول، فإنّ الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية ستتكاثر، وهذا امر طبيعي في واقع لبنان المنقسم عمودياً، وحتى افقياً احياناً، نتيجة الخطاب السياسي لكثير من القوى السياسية الذي امتهن التحريض الطائفي والمذهبي سعياً الى تحقيق شعبوية واهية ومصالح سياسية ضيّقة الى مصالح خاصة زائلة.
يعتقد فريق من السياسيين انّ خلف هذه الحوادث المتكرّرة، خصوصاً في الآونة الاخيرة، رغبة بعض القوى السياسية في تغيير معادلات سياسية او خلق وقائع جديدة يعتقدون انّها يمكن ان تغيّر في ما يرسم من سيناريوهات حول الأزمة اللبنانية وفي مقدّمها أزمة الاستحقاق الرئاسي يرون انّها لا تخدم توجّهاتهم ومصالحهم، خصوصاً بعد ما انتهى اليه اللقاء الخماسي العربي ـ الدولي الأخير في الدوحة وما حمله بعده الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لو دريان الى بيروت من منهجية عمل تقوم على تشاور برعايته بين المعنيين بالاستحقاق الرئاسي الشهر المقبل.
ويقول هذا الفريق، انّ بعض اركان اجتماع الدوحة، ومعهم القوى السياسية التي تدور في فلكهم وتؤيّد، ضمناً او مناورة، ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون، اصطدموا بحقيقة انّ «الثنائي الشيعي» وحلفاءه، ومعهم الفرنسيون يتمسكون بدعم ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، وانّهم سيخوضون معركته حتى النهاية لاقتناعهم بأنّه الشخصية الأكثر ملاءمةً لطبيعة المرحلة في لبنان والمنطقة، وهو اقتناع موجود ضمناً لدى بعض اركان «الخماسي» قد يجهرون به لاحقاً، خصوصاً بعد ان يتبيّن لديهم انّ الظروف لن تتيح الإتيان بشخصية اخرى إلى رئاسة الجمهورية.
وقد تفرّد فرنجية خلال زيارته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في الديمان بموقف أثبت فيه تكراراً انّه رجل دولة من طراز رفيع عابر للشعبوية والطائفية التي ارتفع منسوبها لدى البعض في ضوء حادثة الكحالة، إذ قال انّ «الأجواء كانت اكثر من ايجابية»، وانّه توافق مع البطريرك «على انّ المرحلة خطيرة وتحتاج الى الهدوء وان يكون لدى الجميع تفكير وطني لإمرار هذه المرحلة الصعبة من تاريخ هذا البلد».
وفي رأي سياسيين، انّ الاستثمار السياسي والطائفي في حادثة الكحالة، لم يغيّر في واقع الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً عبر محاولة إحباط الحوار الجاري بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» والذي أوشك التوصل الى نتيجة عملية تشير المعلومات الى انّها ستصبّ في مصلحة ترشيح فرنجية، فتورّط نواب من «التيار» في تصريحات معادية لـ»الحزب» سرعان ما عولج، بتنبيه الرئيس ميشال عون من الفتنة، مؤكّداً «انّ المطلوب اليوم هو التهدئة، بدل التحريض، ومدّ جسور الثقة بدل بث سموم الكراهية، وانتظار نتائج التحقيق».
ويقول هؤلاء السياسيون انّ الحوار بين «التيار» و»الحزب» أربك المعارضة وجعلها تضرب الأخماس بالأسداس قبل عودة الموفد الفرنسي في ايلول المقبل، ويدل إلى ذلك هجوم رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع على ما سمّاه «التحالف الشيطاني» بين «حزب الله» و»التيار»عندما قال في مؤتمره الصحافي الاخير، إنّ «المسؤول عن الوضع المأسوي الّذي نحن فيه، هو التّحالف الشيطاني بين محور الممانعة و»التيار الوطني الحر»، اللّذين كانا متحكّمَين خلال السّنوات الـ10 الأخيرة بالحكم، بشكل أو بآخر».
على انّ خروج «التيار» من التقاطع مع المعارضة على الوزير السابق جهاد ازعور، دفعها إلى مراجعة مواقفها وحساباتها، وتكتشف انّها لا تستطيع النفاذ بمرشح من كنفها، حتى ولو كان قائد الجيش، الذي لا تخفي انّها في وارد السير به، ولكنها في الوقت نفسه تدرك انّه إذا لم يحظ بتأييد «التيار» لا يمكنه الوصول، هذا في حال توافر نصاب الثلثين لتعديل الدستور في الاتجاه الذي يجيز لمجلس النواب انتخابه.
هي مرحلة الضغوط المتبادلة بين القوى المتنافسة في ساحة الاستحقاق الرئاسي، يقول المتتبعون لشؤون هذا الاستحقاق، وستأخذ مداها حتى الشهر المقبل، ولكن في خضم هذه الضغوط يُخشى من تكرار ما يحصل من أحداث امنية وسياسية داخلية، اما ما يحصل في المنطقة وما يُحكى عن سيناريوهات سلبية في هذا الصدد فقد ثبت أن لا علاقة له بلبنان واستحقاقاته لا من قريب ولا من بعيد، بل على العكس تدلّ الوقائع إلى انّ الخارج بلغ حدّ عدم اعارة لبنان اي اهتمام، بدليل انّ اللقاء الخماسي الاخير القى مسؤولية انجاز الاستحقاق الرئاسي على القوى السياسية اللبنانية على الرغم من تلويحه باتخاذ «اجراءات» ولم يقل عقوبات، ضدّ من يعرقلون الحل في لبنان.
وعلى الرغم من ذلك، يحلو لبعض القوى السياسية ربط ما يجري في المنطقة بما يحصل في لبنان هذه الايام من أحداث، ويقولون انّ الاتفاق السعودي ـ الايراني « انتهى»، وذلك على خلفية الأحداث التي شهدها مخيم عين الحلوة وما تلاها من بيان ديبلوماسي سعودي، الى بيانات اخرى عربية وأجنبية دعت رعايا عرب واجانب الى مغادرة لبنان، او توخّي الحذر في التنقلات وتجنّب المناطق التي تشهد توتراً. وقد جاء توضيح السفيرالسعودي وليد البخاري للخلفية الأمنية للبيان ليدحض ما ساقه البعض من خلفيات اقليمية له.
والواقع، يقول سياسي مخضرم، انّ من يتحدثون عن «سقوط» الاتفاق السعودي ـ الايراني، انما يعبّرون عن فرضيات ليست موجودة اساساً لا لدى المملكة العربية السعودية وايران اللتين تقاطعت مصالحهما الحيوية على هذا الاتفاق الذي يقوم على سياسة «صفر مشكلات» في هذه المنطقة التي لم تعد تتحمّل استمرار النزاعات على ساحتها. فالمملكة كما ايران انما ذهبتا الى الاتفاق لاقتناعهما انّ استمرار النزاع المباشر وغير المباشر بينهما لم يعد في مصلحتهما ولا في مصلحة المنطقة وشعوبها عموماً.
نعم، ربما يمرّ تطبيق الاتفاق السعودي ـ الايراني بشيء من التباطؤ او البرودة تبعاً للتطورات المتسارعة اقليمياً ودولياً، يقول قطب سياسي، مستدركاً انّ هذا لا يعني انّ طرفيه باتا في حلّ منه، بل على العكس من ذلك، إذ يكشف القطب ايّاه، انّ التواصل قائم بينهما بأشكال مختلفة، وانّ الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي سيلبّي في وقت ليس ببعيد دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لزيارة المملكة، وستكون هذه الزيارة اعلاناً مدوياً عن طي البلدين صفحة الماضي بينهما وإيذاناً بفجر جديد في مستقبل دول المنطقة وشعوبها.
فربما يكون كل من البلدين يستعجل من الآخر خطوات في اتجاهه، ولكن التأخّر في ذلك لا يعني سقوط الاتفاق الذي ما كان ليُوقّع وتحت رعاية دولة عظمى مثل الصين الاّ ليكون ثابتاً ودائماً، خصوصاً انّ طرفيه يحترمان خصوصيات بعضهما، وكذلك حدود مصالحهما الاقليمية. وقد جاء ما اوردته وكالة «إرنا» الرسمية الايرانية قبل يومين نقلاً عن مصدر مطلع، من انّ السفارة السعودية في طهران بدأت نشاطها رسمياً في 6 آب الجاري، ليدحض الكلام عن انّ اتفاق بكين قد سقط، علماً انّ السفارة والقنصلية العامة الايرانيتين في الرياض كانتا بدأتا نشاطهما في 6 حزيران الماضي.
واذا كان من السهل على البعض القول انّ اتفاق بكين قد سقط، فإنّ من الصعب عليه أن يقدّم دليلاً دامغاً على ذلك، فما يُشاع في الاعلام او عبر بعض الرسائل السياسية المشفّرة شيء وما يدور في الواقع شيء آخر، فهذا الاتفاق تنفيذه جارٍ وسيبلغ الأهداف المتوخاة منه، وسيكون للبنان حصة فيها، إن لم تظهر الآن فإنّها ستظهر لاحقاً، وهي مرهونة بتوقيت اصحابه وليس بتوقيت غيرهم.