وراحَ يقدَحُ طولَ اللّيلِ فِكْرتَهُ وفَسّرَ الماءَ بعدَ الجهدِ بالماءِ.
«المكتشف» الفرنسي جان إيف لودريان، باسمه وباسم اللجنة الدولية الخماسية، جاء يبشُّرنا بأنَّهُ اكتشفَ مفتاح السّر الغامض لقصر بعبدا: إنّه الحوار ثـمّ الحوار ثـمّ الحوار، وهي الأعجوبةُ التي سبقَهُ إليها الرئيس نبيه بري.
نعم، الحوار… ولكنّ الحوار – كما الصلاة – في معزل عن الإيمان لا يحقّق خلاصَ الإنسان في أبديّـة السماء، وخلاص الأوطان من جهنميّة الأرض.
وإذا كان الحوار دعوةً سماوية، فهو أيضاً يشكّل اختباراً لنزوات الإنسان، منذ كان ذلك الحوار الفردوسي بينَ الحيّة وحواء.
المسيح، حاور أعداءَه بالصدق والصفح والمحبة، فكانت المسيحية رائدةَ الحوار في أقصى إيجابيّاته حتى التسليم بالخدّ الأيسر بعد الأيمن.
والنبيّ، أرسى قواعد الحوار روحانيّاً في رسالته إلى أهل «نجـران»: لنجـران وأهلها وحاشيتها حوار اللـه وذمّـة محمد.
والإمام الأوزاعي كان يقيم حواراً في الفِقْـهِ من كنيسة مار جرجس إلى مسجد الإمام في بيروت لتكريس المحبة والأخـوّة الوطنية(1)، مثلما يشدّد الإرشاد الرسولي على المسيحيّين لإقامة حـوارٍ صادق مع المسلمين. ص: 150.
ولكن، ما هي قيمة طاولة الحوار بين قادة وأقطاب كانوا السبب في الإنهيارات المتلاحقة، وما زالوا قابعين تحت طاولات الآخرين…
وما هي قيمة الحوار إذا استمرّ هذا الإنقسام العمودي: الوطني السيادي السياسي الحزبي الرئاسي والمذهبي، كأننا أمام جبلين لا يلتقيان، وإذا تمخّض كلٌّ منهما بالحوار فلا يلـدُ إلاّ فأراً.
وما هي قيمة الحوار، عندما يكون دعـوةً مغلَّفة على غرار الخطّـة العسكرية التي تدفع فوجـاً رمزيّـاً إلى المعركة لاختبار مكمن الضعف عند الخصم ثـمّ تنقضّ عليه بكل القوى المتيّسرة.
وهل يكون الحوار حـول المواصفات الرئاسية…؟ ومن هو الذي يتحلّى بتلك المواصفات التي وصف بها الرئيس تقي الدين الصلح الرئيس فؤاد شهاب، «بأنّـه لم يأتِ لحلّ مشكلة رئيس بل جاء لحل مشكلة وطـن..؟»(2)
وهل كلّما استحقَّ عندنا استحقاق رئاسي أو حكومي أو تشريعي، يحـلّ الحوار محلّ المغفور لـه الدستور، لنقول بلسان الإمام علي بن أبي طالب لمعاوية: «دعَـوْتنا إلى حكم الكتاب «القرآن» ولستَ من أهله»..؟
وهل سيكون الحوار حول شخص رئيس الجمهورية..؟ وماذا عن الجمهورية والنظام والدستور وهويّـة لبنان الحضاري ومستقبل لبنان التعدّدي والصيغة النموذجية والزحف السوري والمخيمات المدجّجة ، والعيش الأليف المشترك…؟
ألـمْ تكن هناك لقاءات وحوارات وطاولات طالما تحوّلت إلى نـوع من صراع الديوك ، فإذا الحوار يتحول إلى شظايا، وإذا العيش المشترك أو التعايش المشترك يترنّح على طواحين الهواء والأهواء…؟
نذْكـرُ، أنّ الشيخ بهيج تقي الدين اعترض يوماً على كلمة تعايش مشترك مفضّلاً العيش المشترك لأن فعْـل «تفاعلَ»، أيْ تعايش يعني المشاركة بين متفرّقيَنْ، واللبنانيون عائلة واحدة شديدةُ الأواصر وملتحمة العناصر..
ولكن لو يعلم الشيخ بهيج أنّ كلمة تعايش مشترك تحوَّلت إلى تقاتل مشترك وكلمة العيش المشترك تحوّلت إلى مـوت مشترك بعد وفاته، لكان مات حيث هو مـرّة ثانية.
هكذا أصبح لبنان، بلـد التعايش والتناقض معاً، وعليه أن يتعايش مع كلِّ تناقضاته، وتتعايش فيه كل تناقضات الآخرين، وبما يتناقض معه كياناً وجوهراً ومصيراً، في وطـنٍ أصبح فيه لكلّ أمّـةٍ شبهُ وطـن، وشبهُ دولة، وشبهُ حكومة، وشبه رعايا، وكلُّ مَـنْ في الخارج يحاول أنْ يستأثر بالداخل ويستفرد برأس العرش.