تصبح الدعوة لإنعقاد طاولة للحوار خارج المؤسسات الدستورية ضرورة وطنية، عندما تواجه الأمة مأزقاً سياسياً عميقاً أو معضلة أمنية أو اقتصادية، تعجز المؤسسات التقليدية للدولة عن إيجاد الحلول والمخارج الناجعة لها، وذلك بسبب عمق الخلافات والانقسامات الحاصلة بين القوى السياسية الرئيسية، والذي يدفع البلاد للدخول في مرحلة خطرة، قد تؤدي إلى فتنة وطنية أو انهيار شامل للدولة أو بناها الاقتصادية والمالية.
انطلاقاً من تحسّسي لخطورة المنحى الذي تسير فيه الازمة الراهنة، ومنذ انطلاق الانتفاضة في 17 تشرين أول، وبعد استقالة الرئيس سعد الحريري، فقد حذرت في عدّة افتتاحيات من مخاطر الإنزلاق نحو الفتنة. واستعادة أجواء الحرب الأهلية، وبعدما أثبتت الطبقة السياسية مرات متتالية عدم كفاءتها وجدارتها لمنع تدهور الاوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية نحو الهاوية، فقد دعوت رئيس الجمهورية والحكومة للتحوّط لمخاطر الأزمة، خصوصاً في ظل دفع حزب الله وقوى الممانعة للتوجه شرقاً نحو سوريا وإيران والصين، مع كل ما ينطوي عليه هذا الخيارمن مخاطر وتهديدات مصيرية للبنان، جرّاء عزله وتعريضه لعقوبات أميركية وعربية بعد دخول قانون «قيصر» حيِّز التنفيذ، كما شددت على ضرورة وأهمية فتح حوار مباشر مع حزب الله لدعوته لتسهيل عمليات ضبط جميع المعابر على الحدود السورية من قبل الجيش، ومنع اضعاف العهد وسقوطه تحت الضغوط الاميركية، والتي هي مرشحة للارتفاع، كما اعتبرت بأن الحكمة السياسية تدعو ان يبادر الرئيس عون للدعوة لطاولة حوار وطني للبحث في بند واحد: تحييد لبنان واستعادة القرار السيادي من قبل الدولة.
لا أذكّر بهذه الدعوات المتكررة للتبصّر في المخاطر التي يواجهها لبنان من باب المزايدة الرخيصة على مواقف سيّد العهد أو الحكومة، وأتهامهما بالتقصير في تحمّل المسسؤولية الوطنية لسوء الأحوال التي تعاني منها البلاد في ظل انهيار النقد الوطني، والارتفاع الجنوني لأسعار السلع، ولكنني انطلق من رؤيتي وحرصي على تجنّب الانزلاق تحت ضغط الشارع والضائقة المعيشية نحو الفتنة، والعودة إلى الاقتتال الداخلي، في ظل المحاولات المتكررة من قبل بعض الفئات لإحياء خطوط «تماس» الحرب الأهلية.
وبالفعل فقط استجاب الرئيس لصوت العقل والحكمة من خلال دعوته لطاولة حوار في القصر الجمهوي،وهي دعوة ضرورية ومرحّب بها، ولكن لم تترافق هذه الدعوة مع التحضيرات الأساسية اللازمة لتأمين حضور كل القوى السياسية المدعوة للمشاركة فيها.
في رأينا لا يتحمل الرئيس عون شخصياً التقصير في تحضير الأجواء السياسية لانعقاد المؤتمر أو في اختيار «الأجندة» الباهتة والضعيفة التي أعلنت، بل يجب تحميل مسؤولية هذا التقصير الكبير لدوائر القصر ومستشاريه أولاً، ولحزب الرئيس السياسي والذي وعلى لسان رئيسه جبران باسيل قد عمل عن قصد أو جهل على تفجير جميع الجسور مع العديد من القوى السياسية الرئيسية كتيار المستقبل والقوات اللبنانية والمردة، وأدى ذلك إلى توتير وتسخين الأجواء السياسية، وبالتالي الدفع إلى مقاطعة الدعوة، انطلاقاً من القول بعدم جدوى الحوار، في الواقع يُمكن الاستنتاج بأن إعلان القيادات السنية الأساسية، المتمثلة برؤساء الحكومات السابقين رفضها المشاركة في الحوار يمثل ضربة شبه قاتلة لمبادرة الرئيس عون، وأن الجهة التي تتحمل مسؤولية فشل المؤتمر هي دوائر القصر الجمهوري، والتي قصّرت في اتخاذ الخطوات واجراء التحضيرات اللازمة من خلال تبريد الأجواء السياسية، وخصوصاً لجهة ضبط تحركات التيار الوطني الحر، والذي لا يفوت رئيسه جبران باسيل فرصة إلا للاستفادة منها، مستعجلاً لتسويق نفسه للرئاسة المقبلة أو لتحقيق بعض المكاسب المعنوية على خصومه ومنافسيه، يضاف إلى ذلك ضرورة استطلاع دوائر القصر ومستشاري الرئيس لآراء المدعوين للمشاركة في الحوار حول بنود «الاجندة» المطلوب طرحها وبحثها من أجل عقلنة الحوار وتفعيله، وتأمين أفضل الظروف لكي يكون ناجحاً ومجدياً.
في ظل الخطوة التي اعلنها الرئيس السنيورة عن مقاطعة رؤساء الحكومات السنة للمؤتمر، مع تجنّب النقاش في اسبابها تطرح الآن علامة استفهام كبيرة حول جدوى انعقاد المؤتمر، دون حضور المكونات السنية الأساسية، حيث سيؤدي ذلك الى الطعن بميثاقية قراراته، خصوصاً وهذه المكونات هي في حالة مقاطعة شبه كاملة للقصر وللتيار الوطني الحر. في المقابل لا بدّ أن نتوقع المزيد من «الهبل» السياسي من المستشارين الغيارى على العهد وسيّده، وذلك من خلال الدعوة والتشجيع لانعقاد المؤتمر بمن حضر.
يجب أن يُدرك فطاحل السياسة والقانون الذين تعج بهم دوائر القصر بأن مؤتمر الحوار ليس غاية بحد ذاته، وإنما الغاية الحقيقية منه تتركز على رأب الصدع الحاصل في القرار الوطني، وترميم الإنقسامات العامودية الحاصلة بين القوى السياسية، وبين السنة والشيعة على المستويين السياسي والشعبي تحديداً، ومن هنا فإنه لا جدوى من أي حوار في حال غياب مكونات سياسية أساسية سنية أو مسيحية. إن قيمة الحوار وايجابيته تتمثل بجدوى مقرراته وقدرتها على تفكيك عقد الأزمة التي يواجهها البلد، بالإضافة إلى جمع شمل كل القوى السياسية لتأمين مشاركتها ودعمها لعملية الخروج من المأزق الراهن، وتفادي كل المخاطر التي تتهدد لبنان.
أغتنم هذه الفرصة لأدعو الرئيس عون للتصرف بحكمة وعقلانية، وتجنب السير وفق دعوات مستشاريه «المتهورين» للسير بانعقاد مؤتمر الحوار الوطني بمن حضر، وعليه أن يُدرك بأن المؤتمر سيفضي، في حال انعقاده في غياب مكونات وطنية وسياسية أساسية، إلى عكس النتائج المرجوة منه، وتأتي دعوتي للتريث وتأجيل المؤتمر مع العمل على إجراء التحضيرات اللازمة لانجاحه بتأنٍ وعقلانية راجحة، وذلك انطلاقاً من الأخذ بالمبدأ القائل «السياسة هي فن الممكن».
لكن يبقى السؤال المطلوب الاجابة عليه: هل سيعمد الرئيس عون إلى البحث عن المسؤولين عن قصر النظر في التحضير للمؤتمر أو ومن شحنوا الاجواء السياسية، الذين اعطوا الحجة والذريعة للمقاطعين للدعوة.
وسنبقى بانتظار رؤية ما ستفضي إليه مهاراته القيادية بهذا الخصوص.