منذ بدء تطبيق قانون قيصر بدا وكأنّ السلطة في لبنان قد دخلت في متاهة البحث عن الإستمرار وعن سبب للبقاء. منذ ثورة 17 تشرين ترنّحت السلطة ولكنها لم تقع. ذهبت إلى خيار تشكيل حكومة الدكتور حسّان دياب ولكنّها بعد ثمانية أشهر لا تزال تدور في حلقة مفرغة وتغرق في مستنقع الأزمة. لا تقدّم أيّ حلّ للخروج من المأزق ولا تنسحب من المشهد. إنّها تعاند إعلان السقوط والإفلاس.
مؤتمر الحوار الوطني في قصر بعبدا يوم الخميس 25 حزيران الحالي كان تعبيراً عن الحال المزرية التي وصلت إليها هذه السلطة. لقاء فارغ في الشكل وفي المضمون ويحمل السلبيّات ولا مكان فيه للإيجابيّات. فاقد الأمل كيف يمكنه أن يعطي هذا الأمل؟ مجرّد كلام فارغ في بيان لا يقدّم أيّ تصوّر للحلّ بل على العكس يبدو أنه كان إغراقاً أكثر في المأزق.
الفراغ من بعبدا إلى السراي
الصورة التي تظهّرت في بعبدا وجدت تفسيرات لها في اجتماع مجلس الوزراء في السراي الحكومي مساء. في بعبدا ثمّة من كان يبحث عن لجنة لاستكشاف أسباب الإنهيار الوطني على المستويات الأمنية والسياسية والمالية، وفي السراي كان ثمّة من يبحث عن تحميل حاكم مصرف لبنان أسباب إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية وكأنّ الحكومة تعيش في غياب كامل عن مقاربة الوضع الذي جاءت على أساس أنها ستتصدى له وتعالجه وتنقذه. وكأنّها مع الحكم في القصر من مبارح العصر.
هناك من يشبه عهد الرئيس ميشال عون اليوم في بعبدا بما كان عليه عهد رئيس النظام السوري حافظ الأسد في سنوات حكمه الأخيرة عندما اشتدّت عليه حالات المرض وبات بعض المحيطين به يتحكّمون بمسار الأمور وبالقرار. تلك المرحلة شهدت بروز تيّار وريثه بشّار الأسد والمقرّبين منه الذين كانوا يسعون لتثبيت عملية انتقال السلطة إليه تحسّباً لوفاة والده وتلك المرحلة شهدت انتخاب العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في لبنان في العام 1998 واستبعاد الرئيس رفيق الحريري من رئاسة الحكومة والإتيان بحكومة الرئيس سليم الحص التي تشبه في فصولها وتركيبتها حكومة الرئيس حسّان دياب اليوم. حتى أن البعض يذهب إلى حد اعتبار أن بعض الطاقم الذي كان حاكماً إلى جانب لحود هو الذي يشارك اليوم في الحكم إلى جانب الرئيس ميشال عون. بالإضافة إلى اعتماد المعايير ذاتها في استخدام السلطة وتسخير القانون والقضاء وفتح الملفات.
ثمّة أكثر من شبه بين مرحلة لحود ومرحلة عون. أيام لحود كان القرار 1559 والتهديد بالإقتصاص ممن اتّهمهم “حزب الله” والنظام السوري بأنّهم كانوا من صانعيه أو بأنهم يحاولون الإستفادة منه. على رغم صدور ذلك القرار تمّ التمديد للحود ورفَضَ النظام السوري سحب جيشه من لبنان وهدّد “حزب الله” بقطع أعناق وأيدي من يريدون نزع سلاح “المقاومة”. لم يتمّ الإكتفاء بالتمديد بل تمّ تشكيل حكومة الرئيس عمر كرامي التي جاءت لتثبيت صورة الرئاسة الممددة. وكانت مهمة “حزب الله” حماية هذا التمديد والتصدّي من خلاله للقرار 1559. ولكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 أخذ الحزب إلى مواجهة مختلفة بعدما خضع الأسد للقرار 1559 وقرر الإنسحاب من لبنان.
الحزب يحمي النظامين؟
اليوم أيضا يبدو أن “حزب الله” يأخذ على عاتقه مهمّة حماية عهد الرئيس ميشال عون من السقوط كما كان أخذ على عاتقه مهمّة منع عهد بشار الأسد في سوريا من السقوط منذ اندلاع الثورة في 15 آذار 2011. ولكن هل يستطيع أن يحمي “نظامين” بينما يواجه مشكلة الدفاع عن نفسه في الوقت نفسه؟
إذا كان عهد الرئيس عون في مأزق كبير فإنّ “حزب الله” في مأزق كبير أيضاً. ربّما لم يكن يريد أن يكون خيار حسّان دياب هو المخرج من أزمة مواجهة ثورة 17 تشرين. ولكنّه كان أمام هذا المسار المفتوح ليس على حلّ للأزمة بل على التأسيس لأزمة أكبر. وكأنّه ينتقل من تحت الدلفة لتحت المزراب.
جون بولتون و”حزب الله”
لعلّ قلق “حزب الله” الكبير مع الرئيس عون ومع الأسد في سوريا يلاقي بعض تفسيراته في بعض ما ورد في كتاب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون خصوصاً في ما يتعلق بموقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الوجود الإيراني في سوريا. فقد ذكر بولتون في كتابه “غرفة الحدث مذكرات البيت الأبيض” أن حديث بوتين عن الوجود الإيراني في سوريا تكرّر في أكثر من محطة وأكثر من لقاء. وكشف أن القيصر الروسي أبدى رغبته بانسحاب إيران من سوريا. وقد قال له: “رغبتنا في رؤية القوات الإيرانية تنسحب من سوريا” ويضيف بولتون: “كانت هذه واحدة من تلك اللحظات التي توجه فيها بوتين إليّ، وقال إنّه يجب أن أخبر ترامب مباشرة بأن الروس ليسوا بحاجة إلى إيرانيين في سوريا، وبأنّه لا توجد مصلحة لروسيا في وجودهم هناك”. وأوضح أن بوتين أبلغ نتنياهو بأن إيران يجب أن تغادر من سوريا، لكن الأسد لديه مشاكل تمنعه من دفعه للضغط على الإيرانيين، فقد كان يعتمد على الإيرانيين لإحراز تقدم على المعارضة في إدلب. وقال بولتون إن “بوتين شدّد على أن الروس ليسوا بحاجة إلى وجود إيراني في سوريا، وأن الشيء الصحيح الذي يجب أن يفعله كل منا هو تحفيزهم على المغادرة”.
إذا كان بولتون، من خلال كتابه، قد أراد أن يزرع القلق في محيط الرئيس ترامب فإنّه قد تسبب بقلق لـ”حزب الله” وإيران. لم يكشف فقط عن حقيقة موقف الرئيس الروسي من وجودهما في سوريا بل كشف أيضاً عن بعض ما يخفيه الأسد. هذه المعلومات التي يرويها بولتون تتكامل مع الدور الروسي في سوريا وفتح الأجواء السورية أمام الطائرات الإسرائيلية لتقصف مواقع القوّات الإيرانية وقوّات “حزب الله” بالإضافة إلى ما يحكى عن بناء الروس جيشاً سورياً رديفاً وعن خلافات مع الجيش السوري الذي لا يزال يتبع النظام.
ربما يدرك “حزب الله” مع الرئيس عون والمحيطين بدائرة القرار في قصر بعبدا أنّهم ارتكبوا خطأً كبيراً بخيار حكومة حسان دياب. ولكنّهم يواجهون أزمة أخرى أكبر من اكتشاف هذا الخطأ وهو أن تغيير هذه الحكومة في هذا الظرف وفي هذه المرحلة قد يكون خطأً مميتاً لأنّه لم يعد هناك مجال للمناورة وربما هذا ما يفسر ردود الفعل السلبية والعنيفة تجاه أي محاولة لعودة التظاهرات إلى الشارع ولجهة الإنتقادات التي يتمّ توجيهها إلى العهد وقد ظهر الإنفعال بصورة جلية في خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” المتلفز الذي دعا فيه إلى مقاومة مفاعيل قانون قيصر والإتجاه نحو الشرق كخيار بديل وأطلق فيه تهديدات بالقتل.
أين الثورة؟
ولكن في مقابل توتّر العهد والحزب يبدو كأنّ هناك عدم وضوح في مسألة مقاربة تجديد ثورة 17 تشرين. عندما اندلعت تلك الثورة أحيت آمالاً كبيرة بالتغيير وأعطت صورة عن لبنان جديد يمكن أن يولد ويخرج من المأساة وتظهّر هذا الوضع من خلال نمو حركة عودة باتجاه لبنان. اليوم هناك أسباب للعودة إلى الأرض أكبر وأهمّ مما كان قبل 17 تشرين وعلى رغم ذلك لم تتجدّد الثورة بشكل كبير. ثمة من يعتقد أن الثورة أصيبت بعطب كبير في المعنويات بعد تشكيل حكومة دياب بحيث بدا لها وكأنّ الطريق مقفلة أمام التغيير الكبير. ولكن اليوم هل تبقى الثورة منكفئة على رغم أن كل الظروف مهيّأة لعودتها بقوّة إلى الشارع وفرض استقالة هذه الحكومة وتشكيل حكومة مستقلّين فعلاً؟ هل الثورة هي أيضاً في مأزق بعد ما حصل من تداعيات عنفية ومذهبية واعتداءات في 6 حزيران وفي 11 منه؟ لعلّ مشاهد حواجز الأمن الذاتي التي نشرت صورها في بعض مناطق بيئة ونفوذ “حزب الله” وحركة أمل تعطي انطباعاً بأن العودة إلى الشارع تخفي خطورة انفجار كبير ولا يمكن المخاطرة في الذهاب في هذا الإتجاه.
ولكن ربّما كانت المسألة تحتاج أكثر إلى خريطة طريق لمرحلة ما بعد العودة إلى الشارع حتى تكون هناك نتائج سياسية مختلفة عما نتج عن مرحلة ما بعد 17 تشرين. وهنا يكمن السؤال حول إمكانية إعلان معارضة سياسية يمكن أن تلتقي مع ثورة الشارع التي لا بدّ أنها ستنفجر من جديد بحثاً عن رغيف خبز وعن حكومة جديدة معاً. ذلك أن السلطة القائمة لم تعد تحتاج ألى أكثر من هزّة لكي تسقط لأنّها لم تعد تجد أيّ سبب للبقاء وفقدت أيّ قدرة على الإستمرار.