يرنّ جرس الحوار رنّة واحدة في اللغة والمبدأ، كما في كل موقع فوق هذه الأرض.. أي باعتباره محاولة للتسوية وضرباً لنقائضها.. والتسوية في ذاتها هي سرّ الوجود في أصله وفصله. بحيث ان الحياة نفسها «تسوية» بين نقيضين: الموت من جهة والخلود من جهة ثانية. وباعتبار ان البشر محكومون بالاجتماع وليس بالانعزال، وفرائض الاجتماع تعني التنازل عن بعض ما لديك وقبول بعض ما في الآخر، ان لم يكن كله أو جلّه!
وفرائض الحوار بسيطة بقدر بساطة اللغة. وأولها نفي اليقينيات الذاتية والتنازل في قصة الأنا، والافتراض المسبق ان الآخر بدوره سيفعل الأمر ذاته تماماً.. والا انقطع الحبل من أوله وبقي كل طرف يشد بالبقايا باتجاهه ويتغنى بالقطع بدل الوصل.. ويعتبره سدرة المنتهى!
والمفهوم مبدئياً ان الحوار يتم بين مختلفين ومتخاصمين وأعداء، وليس العكس. المتفاهمون يتبادلون الرأي والأفكار والمقترحات والعلوم والتحليلات ويتجادلون تحت سقف عناوين واحدة تجمعهم في الأصل، ولا «يتحاورون» انطلاقاً من خلفيات متناقضة.
.. عندنا في لبنان، أمر الحوار نسبي، تبعاً للنسبية في كل شأن آخر.. أي مثله مثل الأمن النسبي. والدولة النسبية. والاكتفاء النسبي. والقانون النسبي. والعدالة النسبية. والكهرباء النسبية. والمياه النسبية. والشوارع النسبية.. الخ. والمصطلح يُستخدم للدلالة على النقص وعدم الاكتمال، وليس على أي شيء آخر أبداً، باعتبار ان عندنا دولة لكن في وجهها دويلة. وعندنا كهرباء لكن تظل غائبة. وعندنا مياه لكن العطش أقوى. وعندنا عدالة لكن التدخلات في آلياتها تجعلها أقرب الى السياسة من كونها شيئاً تامّاً في ذاته.. وعندنا حكومة لكنها لا تعمل. وعندنا دستور لكن العرف أقوى. وعندنا طرقات لكن بعضها ليته ما كان. وعندنا، في المحصلة، جمهورية، لكنها تتحول شيئاً فشيئاً الى «جماهيرية» تذكّر بزبدة نتاجات العقيد الليبي الراحل!
البعض تبعاً لذلك، يفترض ان الحوار هو التعبير الموازي للفرض والاذعان والقبول بما يطرحه هو من دون الالتفات الى ما يُطرح عليه! والأخذ بشروطه كما هي من دون النظر في شروط الآخر! وعند أول حادث اصطدام «حواري» يخرج من ثيابه ويبدأ الردح، وأول عزفه هو ان الآخرين جُهّال وقصّر، ولا يعرفون كيفية التقاط «فرصته» ولا الانتباه الى لحظتها في التاريخ! ومثلهم في ذلك مثل المنقطعين عن الناس والزمن والعلم والمعرفة «العميقة» بكيفية إدارة الدول والنظم الحديثة، وكيفية إصلاح الخلل «البشري» فيها! ورفعها الى العلى الافلاطوني المأمول!
.. هناك خلل في أصل الحوار قبل متفرعاته. ولا بأس من افتراض الحاجة الماسّة الى إطلاق حوار لتعريف الحوار! قبل المباشرة في طرح قضايا خلافية بحثاً عن تسوية لها!