ليس مطلوباً (ربما) أن يكفّ اللبنانيون عن لعبة الحوار. فهذا صار من عاداتهم «اللطيفة» حتى وإن أخذ شيئاً فشيئاً يشبه ردحية الفن للفن، الذي هدفه في ذاته! لا يخرج عنه ولا يبتغي ذلك. ومعلّق في فضاء العين والزمان. لا يحركه واقع ولا تغريه وعود قدرات مضمرة على تغيير ذلك الواقع!
ومفردة الحوار في ذاتها ليست حاسمة المعنى في نواحينا. هي عند البعض الممانع رديف لمطالبة الآخر بالإذعان والتسليم وصولاً إلى الإقرار بالذنب والاعتذار عنه! وهي عند ذلك الآخر، المدني والمديني برغم إصابته ببعض عوارض المحيط الخربان، محاولة فيها شيء من الشجاعة، لجر الطرف المقابل إلى العمران مجدداً.
وفي هذا التوصيف عدالة أكيدة! حيث الميزان مكسور من أساسه: طرف مسلّح بالحديد والنار واليقينيات والمقدّسات. لغته آتية من غريزته وليس من عقله. ومن درعه وليس من صدره. وآراؤه وليدة نزال واحتراب وضرب وساحات وغى لا خضرة فيها ولا بركة مياه! ومشتقة في جذورها وفروعها، من مخزون فكري ثقافي كتابي لا يَرضى النزول تحت سقف الإرادة الإلهية.. وكل مشتقاتها! ولا يقبل التراخي في ذلك تبعاً لاستحالة مزدوجة: واحدة تفرضها قراءاته الخاصة لتلك الإرادة. وثانية موصولة، تفرضها سياسات «الولي» المكلّف بترجمة تلك الإرادة!
.. وطرف آخر لا يملك إلاّ الدعاء! يعرف الحال ولا يعترف به. ويقرّ بانكسار الميزان لكنه لا ينكسر! «يحاول» الحوار مثلما يحاول العطشان الاعتياد على كرع الماء المالح! يعرف النتيجة سلفاً ولا يتعب من البحث عن غيرها مرة تلو مرة. ويقلّب الخيارات فقط كي يتأكد من أنه اختار السيئ وتحاشى الأسوأ! مخزونه المدني لا يتلاءم مع قرقعة السلاح! ومشروعه الخاص لا ينفصل عن خير عام يراه في تسوية تنتج جماليات كثيرة، أولها رد الاعتبار إلى الدولة، والقانون، والدستور.. يفترض أن الطاولة ليست دبّابة، والجلوس حولها يعني تقديم التحية للورقة وليس للمسدس، وللصوت وليس للقنبلة! ثم يفترض (محقاً) أن قوته في مدنيته، وضعف خصمه في تسلّحه. وما يعينه على افتراضه ذاك هو هذه الدنيا في ذاتها، حيث هي أشياء كثيرة «جزء» منها ساحة وغى ونزال مستدام وليست «كلها» ساحة وغى ونزال مستدام! وحيث المقابر فيها جزء من وجودها وليست علّة ذلك الوجود! وحيث الحياة هي لغة الله وإلا ما كانت أولى كلماته وسرّ إرادته.
يتحاور اللبنانيون في زمن الحروب (الإقليمية) وعلى هامشها، مثلما سبق وأن تحاربوا في زمن السلم (الإقليمي) وعلى هامشه.. وفي الحالتين كان بحث عن خلاص مُرتجى! مرة بالنار ومرة بالرقص حول النار.. وفي الحالتين كان العبث بديل ذلك الخلاص، سوى أن التجربة الراهنة، على علاّتها ومنغصّاتها، تبدو «البديل» الوحيد المتوفر والممكن عن تلك النار! حتى وإن كان أحد طرفيها يلعب دوره الطبيعي كمفتعل حرائق، والطرف الآخر يلعب دوره الطبيعي كإطفائي.. بالفطرة!