IMLebanon

محطات الحوار من عام 1920 إلى عام 2023

 

ولدت الجمهورية الأولى مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 ووضع دستور له عام 1926، ثمّ الجمهورية الثّانية إثر إعلان الاستقلال عام 1943، ومع اندماج وثيقة الوفاق الوطني بنصوص الدستور انتقلنا إلى الجمهورية الرابعة هذا ما أقول به، وأيضاً قاله الفقيه الدستوري الكبير «أدمون رباط». في ضوء كل المحطات السياسية، يكون هناك تجاذبات سياسية بطعم طائفي لكي يتم الفوز بالكرسي الأوّل.

ألفت الألسن، عقب انتهاء الشغور الّذي حصل على صعيد كرسي رئاسة الجمهورية، إدخال أحكام الدستور والتفسيرات وفقاً لوجهات نظر البعض. فنصوص الدستور اللبناني جزء متكامل لا يمكن الأخذ بنصّ دون مراعاة نصوص أخرى مرتبطة بها، ابتداء من مقدمته، مع الأخذ بعين الاعتبار موضوع التوافقية والميثاقية. إذا عرّفنا «الشأن العام»؛ يمكننا القول بأنّها المواضيع العامة المرتبطة بشؤون الدولة سواء كانت هذه المواضيع داخلية أم خارجية، وبالتالي كلّ المواضيع التي ترتبط مباشرة أو غير مباشرة بحاضره ومستقبله. لذلك يشارك المواطن في صنع هذه القرارات من خلال المؤسسات في الدولة عبر ممثّليه في المجلس النيابي، سواء كانوا نواباً منفردين أو ينتمون إلى أحزاب سياسية.

لا يمكننا أنّ نتصور وجود مجتمع دون وجود تنظيم سياسي، يحدد طريقة الحكم في الدولة. فنظام الحكم في لبنان جمهوري ديمقراطي برلماني (الفقرة ج من مقدمة الدستور اللبناني لعام 1990) وهو أيضاً توافقي طائفي، قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها (الفقرة ه من مقدمة الدستور)، فالسلطات في لبنان هي ثلاث سلطات تشريعية تنفيذية وقضائية.

ومؤدّى ذلك أنّ السلطة التشريعية هي مؤسّسة دستورية يتولى رئاستها الرئيس «نبيه بري»، وتتألف من 128 نائباً يمثّلون الأمّة جمعاء، بناءً على الانتخابات الديمقراطية التي جرت عام 2022، وبالتالي لا يتوقف عملها في ظلّ حكومة تصريف أعمال، والشغور في رئاسة الجمهورية. إنّ من ينتخب رئيس الجمهورية هم النواب (المادة 49 من الدستور اللبناني)، لذلك لا يمكن لأيّ جهة أنّ تقوم بهذه العملية.

ومع ذلك، وجرياً على ما اعتادت عليه الأحاديث بوصف فتح جلسات في المجلس النيابي لانتخاب رئيس أمر مهمّ، فالأهمّ كيف يتمّ تأمين النصاب في حال فقد؟

لذلك الحوار بين النواب أو ممثّلي الأمّة أو ممثّلي الشعب… وهذه الأسماء تعطي دلالة واضحة عن أهميّة البرلمان، من خلال رئيسه أو أعضائه، بخصوص إقامة الحوارات بأي موضوع من أجل الوصول إلى تسويات واتفاقات، تكون مربحة على الصعيد الوطني، كيف وإنّ كان هذا الحوار مهمّته إنهاء الشغور في سدّة الرئاسة اللبنانية، وبالتالي الوصول إلى انتخاب رئيس بعد فشل جلسات الانتخابات السابقة.

بعد اندلاع الثورة الفرنسية وجد مفهوم الدولة الحديثة حيث إنّ السلطة لم تعد تتمثّل بشخص الحاكم، بل إنّها منفصلة عن من يمارسها، حيث إّنّها تمثّل شخصاً اعتبارياً. لذلك يجمع الفقه السياسي والدستوري على الرابطة بين المجتمع والدولة كسلطة سياسية، خصوصاً أّن الدولة تتألف من ثلاثة عناصر وهي الأرض والشعب والحكومة. فقد نصّت الفقرة (أ) من مقدمة الدستور اللبناني على أنّ «لبنان وطن سيد جرّ مستقلّ، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحداً أرضاً وشعباً ومؤسسات في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور المعترف به دولياً».

وغنيّ عن البيان، فإنّه لا يكفي لقيام الدولة توافر ركنيّ الأرض والشعب إذ لا بد من توفر ركن آخر متمثل في وجود هيئة أو سلطة حاكمة أو سلطة سياسية ويعتبر وجود السلطة الحاكمة ركيزة أساسية من ركائز كل تنظيم سياسي وهو متمثل في شكله الحديث بالدولة، وبالتالي وجود الدولة مفهوم مؤسسي يعتبر العامل الأهم في الدولة الحديثة، خصوصاً وجود المؤسسة التشريعية.

حيث تعتبر عملية انتخاب رئيس الجمهورية سباقاً رئاسياً بين الموارنة تحكمها المصالح الشخصية، وعملية سياسية معقدة بالنسبة لبقية الفرقاء اللبنانيين، فتلعب التحالفات دوراً مهماً في مجال اختيار الرئيس، لذلك هذه العملية قد تمتد لشهور وسنوات، لذلك يعمد أقطاب الأحزاب المسيحية إلى الاتجاه بتعطيل عمل حكومة تصريف الأعمال، كورقة ضغط بوجه الأحزاب السياسية الأخرى. لماذا ضرورة توافر نصاب الثلثين لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية؟

بالعود إلى النصّ الدستوري (المادة 49)، نصّت على ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة (46 صوتاً زائد واحد) في دورات الاقتراع التي تلي.

لقد كتبنا عن هذا الموضوع في مقالات سابقة، بالنسبة لأهمية توافر نصاب الثلثين، ونضيف من خلال هذا المقال، أنّ الشأن العام ووجود ممثلين في مجلس النواب، تفرض أنّ يكون هناك نصاب الثلثين في كل جلسة تعقد لانتخاب رئيس للجمهورية فهو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحاكم الدستور (المادة 49 من الدستور اللبناني). لذلك العبور الإلزامي لانتخاب الرئيس هو من خلال الحوار، فلا يمكن أنّ يتم تأمين نصاب الثلثين لانعقاد الدورة الثانية من جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، في ظلّ وجود اختلافات عميقة حول الشخص الّذي سيتم انتخابه، ولا يمكن لأيّ جهة أنّ تقوم بهذه المهمّة نتيجةً للانتخابات الأخيرة والتي تمخّض عنها عدم وجود أغلبية من جبهة سياسية موحّدة.

لذلك من غير القانوني أنّ تتوقف السلطة التشريعية عن ممارسة مهامها بسبب وجود أزمة سياسية على صعيد انتخاب رئيس للجمهورية أو بسبب أنّ الحكومة هي حكومة تصريف. فالمجلس النيابي يجب أنّ يستمر في ممارسة صلاحياته التشريعية، خصوصاً أنّ الأزمات السياسية في لبنان هي أزمة حكم والتي قد تطول لسنوات، وبالتالي الخروج عن الوقت الزمني المعقول.

لذلك كبلد ذي خلفيات طائفية، تمثّل الأعراف والنصوص الدستورية وميثاق العيش المشترك الثوابت الرئيسة للكيان اللبناني. وبالتالي لا يوجد مصلحة في تعطيل عمل كافة السلطات الدستورية في لبنان، خصوصاً أننا لا يمكننا تفسير نصوص الدستور اللبناني دون الأخذ بعين الاعتبار ميثاق العيش المشترك، وتكامل نصوص الدستور فيما بينها، وبالتالي يتبين لنا أنّ السلطة التشريعية هي المؤسسة الأمّ التي تتمتّع بأهمية مختلفة عن باقي المؤسسات، فهي التي تجيز سياسات الحكومة. وتكون التوافقية هي روح الحوار اللبناني – اللبناني الّذي دعا إليه دولة الرئيس نبيه بري، كيف لا وأنّ المجتمع الدولي والعربي كانوا يتبنون الحوارات بين الفرقاء اللبنانيين خلال الحرب الأهلية ووصولاً إلى الطائف في المملكة العربية السعودية والتعديلات الدستورية التي جرت بموجب وثيقة الوفاق الوطني. وبعد انتهاء الحرب الأهلية وصولاً إلى يومنا هذا. ونذكر على سبيل المثال البيان الّذي صدر عن مجلس الأمن الدولي تحت رقم 157/89/(أ.غ) بتاريخ 7/11/1989، الّذي تلاه رئيس مجلس الأمن آنذاك مندوب الصين في جلسة علنية، حيث أعلن فيه المجلس دعمه لمسيرة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية.

وإنّي ألخص في بضع كلمات الوضع السياسي في لبنان، إنّ لبنان محكوم بالطائفية السياسية، فأقول إنّ هذا النّظام ذو محاذير كثيرة في الأساس وفي الشكل. وبالتالي لا يمكن أنّ يتم انتخاب رئيس للجمهورية بمعزل عن الخارج، ودون وجود طاولة حوار وطنية في الداخل.