دفعَ الرهان لدى الساعين إلى الحوار بين تيار «المستقبل» و«حزب الله» إلى البحث عن عنوان مشترَك يؤدّي إلى عقدِ أولى جلساته بين العيدَين بأيّ ثمن. وهكذا يَستَنسخ التاريخ نفسَه عندما يبدو أنّ دَرءَ الفتنة السنّية – الشيعية يَستدعي صورةً، ولو شكليّة، لتدارُكِ الأسوأ. ما الذي يقود إلى هذا الاعتقاد؟
يُصرّ الساعون إلى هذا الحوار على أنّه محطة لا بُدّ منها لتجاوُز مخاطر كثيرة يمكن الساحة اللبنانية أن تتعرّض لها. فالمعلومات المحيطة بالاستعدادات العسكرية لدى مختلف الأطراف مخيفة.
وتتبادَل أجهزة الإستخبارت الإقليمية والدولية معلومات عن حجم الترسانة العسكرية الروسية والإيرانية التي باتت في تصرّف النظام السوري، والتي تَشي بجولاتٍ جديدة من العنف قد تنعكس على مجرَيات العمليات العسكرية في بعض المحاور الاستراتيجية.
وفي هذه المعلومات أنّ النظام لم يعُد يستوعب حجمَ الضربات الكبيرة التي تلقّاها في عدد من القواعد العسكرية الجوّية والمدرّعة، على يد «جبهة النصرة» و«داعش»، ما يُهدّد بسقوط مناطق استراتيجية إضافية تفوق في أهمّيتها ما استعادَه النظام من مواقع تُحيط بالعاصمة.
في المقابل، لا تَجِد المجموعات المسلحة في ما حقَّقته من انتصارات ما يؤدّي الى إسقاط النظام، فدون ذلك عقبات كبيرة في ظلّ ما وضعَه حلفاؤه من قدرات وفَّرَت التوازن في مناطق محدّدة، والسيطرة الكاملة في عمق العاصمة وصولاً الى الساحل السوري، ما سمَح له بالاحتفاظ بما بات يُعرَف بـ«سوريا المفيدة»، التي تؤمّن توازناً اقتصادياً وماليّاً وجغرافياً، بعدما فقَد مناطقَ شاسعة غنيّة بالثروات المائية والنفطية والإقتصادية.
ومن هذه المعادلة، يسعى سعاة الحوار في لبنان الى إطلاقه. فمثلُ هذا الأداء السياسي يستوعب الخضّات المتوقّعة إذا ما تدهوَر الوضع في سوريا أكثر. وذلك إضافةً إلى ما هو متوقّع من تراجع في المساعدات التي كان يتلقّاها اللاجئون السوريون والذين يمكن أن يتحوّلوا، مساحة استغلال لمصلحة النظام وضدّه، بعدما بات متعذّراً فَرزُهم بين مناصري النظام ومعارضيه، وهو أمرٌ يرفع من خطورة انعكاساته على الساحة اللبنانية، خصوصاً إذا ما استَدعت الأزمة السورية دوراً أكبر لـ«حزب الله» في العمليات العسكرية المقبلة.
لقد تعهّدَ الإيرانيون ومعهم «حزب الله» دعمَ الرئيس بشّار الأسد إلى النهاية أيّاً كانت الكلفة، وهي في رأيهم لا تزال متواضعة أمام حجم ما حقّقه الحزب، ليس على مستوى توفير السيطرة على مناطق إستراتيجية فحسب، بل على مستوى تجنيد الشباب السوري وتحضيرهم ليكونوا قوّةً توازي في أهميّتها قدرات الجيش النظامي الذي فقَدَ أكبرَ مواقعه ومطاراته، واستنفد قواه العسكرية باستخدام وحدات النخبة في المناطق الحسّاسة.
وبناءً على ما تقدّم، يتوقّف سُعاة الخير بين الطرفين أمام حجم المخاوف الناجمة عن هذا الواقع، ويسعون الى خطوات استباقية تُعطّل ما يمكن أن يكون مردودها على الساحة اللبنانية. فالتجربة التي عاشتها قرى البقاع المحيطة بعرسال بعد استشهاد أحد الدركيين المخطوفين لدى «النصرة» دقّت جرسَ إنذار كبير وخطير.
وعلى رغم حجم الضغوط التي مارَسها «حزب الله» وحركة «أمل» لدى العشائر الشيعية لضبط النفس وإطلاق المخطوفين، فقد أدّى حصار عرسال الجزئي الى ردّ فعلٍ سلبيّ في مناطق سنّية أخرى تعيش عشائرُها العادات والتقاليد نفسها.
وكان يمكن أن يكون ردّ الفعل أكثر خطورة لو لم يستوعب الرئيس سعد الحريري الموقف في بيانه الشهير الذي اعتقدَ البعضُ أنّه هدَّد مصير الحوار مع «حزب الله». لكنّ النتيجة الواقعية قادَت الى اقتناع بأنّه كان لاستيعاب الموقف وملاقاة جهود الحزب والحركة ومعهما وجَهاء العشائر.
لذلك، يبدو الجهد المبذول لعقدِ أولى جلسات الحوار في أسرع وقت ممكن لقطع الطريق على سُعاة الفتنة مبرّراً ومقبولاً، على وقع اقتناعٍ بدأ يتولّد بأنّ مسؤولية «حزب الله» تفوق مسؤولية الطرَف الآخر، خصوصاً إذا صحَّت النظرية التي بدأت تحتسب التحوّل في مطالب خاطفي العسكريين الذين أصبحوا بتناسيهم همومَهم السورية، فصيلاً لبنانياً، وباتت مطالبهم في خدمة فئات لبنانية تبادلت معهم الرسائل في وضوح من دون أيّ خجل، وهو ما سيدعو الحزب إلى إنقاذ السنّة من مجموعة المستفيدين من هذه العملية.