يسجّل العدّاد الرقم 4. إنّها الجولة الرابعة من الحوار بين «المستقبل» و«حزب الله»، و«عقبال الأربعين!»، لكنّ المشهد بدأ يفتقر إلى الحيويّة، تسكنُه الرتابة، ويحاصره الضجَر، ولولا النبرة العالية التي تعمَّدَها وزير العدل أشرف ريفي في ردّه على نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم منتقداً معادلة الجيش والشعب والمقاومة، لأمكنَ القول إنّ ما يجري بين الطرَفين لم يعُد جاذباً، ولا حدَثاً تنتظره الناس لتحصدَ منه النتائج الباهرة، لأنّ ما تتضمّنه البيانات من تفاهمات لا يُسمِن، ولا يغني عن جوع.
«أولياء الأمر» يرون استمرارَه ضرورةً للبحث عن الشراكة، وتحديد مفهومها في الحاضر والمستقبل، إنطلاقاً من طريقة التعاطي مع «الإنتشارين» الفلسطيني والسوري، وتأثيرهما على الجغرافيا والديموغرافيا، وبالتالي النظام والصيغة.
للمسيحي دور وحضور، ولكن لا بدّ أوّلاً من تنظيف المناخ الوطني من شوائب المذهبيّة والطائفيّة، وللشريكين السنّي والشيعي الدور الأبرز في ذلك، لأنّه في كلّ مرّة تُطرَح فيها تحدّيات من منطلق وطني، تنتهي إلى تكريس العبء بعد أن تتغلغلَ المناقشات في الزواريب المذهبيّة الضيّقة.
لا أحد يتحدّث اليوم عن الطائف، ولا عن الدولة بأساساتها ورموزها، هذه مسائل تحتاج إلى شراكة أوسع، وحوار أشمَل وأعمق، ويكفي أن تكون المنطلقات اليوم من الأولويات، من الأعباء الكبيرة التي أرخَت بثقلِها على الواقع الوطني، من الإرهاب المتدثّر بعباءَةِ الدين، وسُبل مواجهته، إلى النزوح السوري والإقامة الطويلة الأمد، إلى اللجوء الفلسطيني وغياب حقّ العودة عن الحوارات والمعالجات، إلى التحدّيات الاجتماعيّة والمعيشيّة التي لا تعالَج بمسرحيات الأمن الغذائي.
بعد مجزرة القنيطرة، وملحمة تلّة الحمرا، كان من البديهي أن يتضمّن بيان الجولة الرابعة دعماً للجيش والقوى الأمنيّة. الديبلوماسيّون المتابعون لا يرون في هذا الدعم إنجازاً، بل أمراً محتوماً، لأنّ البديلَ جرّبوه، وكان كارثيّاً، خصوصاً عندما ذهبَت الطوائف والمذاهب إلى الاستقواء بميليشياتها إبّان الحرب المشؤومة. لقد ذهبَت يومَها إلى حدّ الانتحار، وتمكّنَت من نحر الوطن. المطلوب أن يبقى الحوار تحت سقوف محدّدة، أن يُهذّب الخطاب السياسي، وينفّس الإحتقان المذهبي، ويحدّ من العصبيات المنفلتة نحو الفوضى العارمة.
يعرف «أولياء الأمر» أنّ القلوب مليانة، وأنّ جدار الثقة لم يستكمَل بناؤه بعد بين المتحاورين، وهناك كثير من المراوغة والتذاكي، ولكن مَن «أمرَ» بالحوار، و»فرضَه»، إنّما كان يعرف الأهداف المرجوّة سَلفاً. إنّه حوار لتمرير الوقت، في انتظار اللحظة المناسبة التي يهطل فيها الوحي الخارجي لوضعِ الجميع على سكّة الحلّ والانفراج.
ويبدو أنّ معادلة المسارَين والمصيرَين لا تزال حيّة ترزَق، إذ ليس الحوار في سوريا أفضل حالاً، وإن كانت الدوَل المضيفة متنوّعة، والضيافة عارمة بحيث تتنقّل الطاولة ما بين «جنيف -1»، و»جنيف -2»، والآن في موسكو. إلّا أنّ النتائج، كما الحوار في لبنان، محدودة السقف والتوقّعات، لأنّ التطلّعات غير نابعة من الذات، بل من الدوَل والأنظمة، والمرجعيّات المؤثّرة على المتحاورين سواءٌ بالدعم المالي أو اللوجستي أو المعنوي.
الجامع المشترَك هو أنّ اللبنانيين لا يعرفون إلى أين سيَنتهي بهم المطاف، ولا السورييّن أيضاً. وعلى رغم كلّ ما يُقال عن أوراق العمل ومشاريع الحلول، فإنّ الأجندة الخارجيّة تبقى هي الأهم، كونها تأخذ الحوار إلى حيث تريد، لا إلى حيث يطمح المتحاورون، خصوصاً أنّ على جدول أعمالها اليوم عناوين مهمّة تتّصل بسوريا ومستقبلها نيابةً عن السوريّين أنفسِهم،
بل لعلَّ الهدف الأوّل والأبرز من هذه الحوارات التي يُحدّد «أولياء الأمر» مواعيدَها وموضوعاتها، حمل السوريين، لا بل دفعهم دفعاً، للتعاطي مع الواقع كما هو على الأرض، ومع المستجدّات التي فرَضت نفسَها، كالإرهاب ومواقع النفوذ والسيطرة لـ«داعش»، و«جبهة النصرة»، والحالة الكرديّة قبل كوباني وبعدها، والوضع الإنساني الذي يتطلّب عناية استثنائيّة ملِحّة. وكأنّ الحوار في شأن سوريا ومستقبلها بات أمام عناوين جديدة، وديناميّة مختلفة تنطوي على جاذبيّة غير تلك المستهلكة.
لا يزال شعار التغيير رمزاً، تريده وتحتمي في أفيائه فصائل المعارضة المتنوّعة، لكنّ الاستثمار الدوليّ في الجرح السوري بات كبيراً ومعقّداً. وفي ظلّ التشرذم الحاصل، كما هو الحال في لبنان، فإنّ المصير والمستقبل في سوريا لم يعُد في أيدي السوريين، بل أصبح في عهدةِ الدوَل «أولياء الأمر».
وفي زحمةِ التحضيرات لحوار موسكو، يعلن الرئيس باراك أوباما عن إرسال 400 خبير عسكري لتدريب المعارضة السوريّة المعتدلة، وفقَ برنامج يمتدّ لسِتّ سنوات. ما معنى الحوار، وما الجدوى منه، إذا كانت المعركة، كما يخطّط الأميركي، ستستمرّ لسِتّ سنوات مقبلة؟
على الضفّة الأخرى، يبدو الحوار واعداً ما بين الولايات المتحدة وإيران، وما بينها ومجموعة (5+1)، وكأنّ الحوارَين اللبناني والسوري ينتظران نتائجه ليبنى على الشيء مقتضاه.