القاعة بلا نوافذ. الأفق ممتنع. طاولة «الحوار» دائرية ومقفلة من كل الجهات. الوجوه في أماكنها. ما كتب على سحناتها مزمن، لا جديد في الأسماء والمواقع. المشهد من الداخل يعبر عن ضيق، ومخاض الحوار عسير، والعملية القيصرية متعذرة: العنف ممنوع والانكسار كذلك. قوى الحوار متعادلة، والعطل في هذا التعادل. إنها لعدالة ظالمة.
خارج القاعة، المكان قلعة محصَّنة. أسلاك شائكة تمنع الإمكان، وتحظر الاقتراب. الشوارع المحيطة مكتظة بالحراسة. شيء من «حالة حصار» أو فيلم Z… خلف «الأسوار الشائكة» مدى مفتوح، ساحات رحبة، شباب وشابات، نساء ورجال، ملتزمون ومتحررون، من منابع كثيرة، بلغات كثيرة وشعارات حية، بعضها من نسج أحلام صحية، وبعضها من قبضات فتية. خلف الأسوار بعض من شعب، أخرجه «الأفق السياسي المسدود» إلى رحابة الهتاف ومحاولة انتزاع حقوق، انتهكها المجتمعون على طاولة مستديرة وفي قاعة بلا نوافذ وفي مكان بلا أفق.
مشهدان مضادان. الأول يفصح عن نهايات ثقيلة. الثاني يشير إلى بدايات واعدة. الأول لم يخرج بعد من طقس المراوحة، من استحقاق العجز، من تخلف الوسائل، من تصيُّد المناسبات، من التخندق المذهبي، من المطالب المزوّرة، من الحقوق الطائفية الملازمة لصفة العار الوطني. الأول مرتكب الفراغ، منتهك الدستور، مفترس القوانين، مستهلك المبررات، مدّعي الوطنية. يحضر بلا تأنيب ضمير، ليبحث في جنس الرئاسة، ونوع المجلس، ومن أولاً، الرئاسة أم النيابة؟ وليس في محفظته قول واحد عن حقوق الناس.
عالمان مضادان لا يلتقيان. ويفترض ألا يلتقيا. الأول الحاكم ألغى الثاني القادم. منعه من الوجود. حرمه من الحضور. ادعى ملكيته باسم المذهبية. أغدق عليه وعد الثأر والانتقام وعدم التنازل. الأول، انقسم على نفسه واقتسم الوطن. الثاني قادم، وفي يديه قبضة وفي عينيه أفق، وفي صوته صراخ صادق: «طلعت ريحتكم»، «حلوا عنا»… وهذا، حتى اللحظة، كافٍ ومرضٍ وبحاجة إلى التفاف حوله وقطع مع الأول.
في «الحوار» جدول أعمال بنقاط العطالة المزمنة: انتخاب رئيس للجمهورية، تأمين نصاب الشراكة والتوافق في مجلس الوزراء، فتح أبواب مجلس النواب للتشريع «الضروري» فقط (كأن التشريع في أمور أخرى، غير ضروري)، قانون انتخابي جديد، تم التمديد من أجله، زوراً وبهتانا، لمرتين، الخ… لا جديد البتة. كان يمكن التداول في هذه القضايا، داخل المؤسسات الدستورية. تعذّر ذلك لعلة في النفوس وليس لنقص في النفوس، وهذا هو جوهر المعضلة في الكيان. كيان بمرجعيتين: المرجعية الميثاقية والمرجعية الدستورية.
يقال: هذا لعب في الوقت الضائع. كلام معلول. يقال: هذه محاولة لاستيعاب الحراك الشعبي المتعاظم. كلام قاصر. الحراك في وادٍ آخر، لا ينتظر من الحوار شيئاً. ويقال ويقال الكثير، لعل أهمه انكشاف لعبة التوافق التي جعلت من الدستور خرقة ومن القوانين ممسحة ومن التمثيل النيابي اجتراراً، به احتلت قوى الطوائف والمذاهب والمال مواقعها في السلطة والإدارة والمؤسسات والهيئات والأحزاب والتيارات والمسؤوليات، ووقفت على مزارب الإنفاق والهدر، لاغتصاب حصتها.
لا تخبئ جلسات الحوار غير المتوقع، إنما تكشف لـ «الحراك» مسألة في غاية الأهمية: الوفاق معطِّل للحياة الدستورية، التوافق بين زعماء الطوائف السياسية إقصاء للمرجعية القانونية، وتسلّط وانتهاك وفساد. الدستور اللبناني لا يشبه هذه الطبقة ولا ما تأتيه من أفعال وما ترتكبه من فضائح ومخالفات. «التوافق» على الطريقة اللبنانية، لا يمت بصلة إلى «الديموقراطية التوافقية». الدستور واضح والتوافق مغالبة ونصب كمائن. ولولا «التوافق»، لكانت الحياة السياسية استقامت والعدالة أخذت مجراها، ولكانت المساءلة والمحاسبة مجدية. بالتوافق تسلحت هذه الطبقة السياسية ونصّبت نفسها فوق الدستور وفوق القانون وفوق المؤسسات. سيَّرت الدولة وفق مصالحها. كانت الدولة في بداية عهدها، حاضنة للطوائفيات. بعد الحرب، أكلت الطوائفيات الدولة، وأصبحت الدولة كلها من أملاكها. وما وصلت إليه حالة لبنان، بعد كارثة النفايات، هو نتاج ما ارتكبته «الشرعية التوافقية»، عندما تعذر على قادتها التوافق.
أنجزت الطبقة السياسية الحاكمة آلية لتعطيل الدستور، ولم تنجز أي آلية لضبط الميثاقية. فقدان الآليات أودى بالميثاقية ولم يسترجع الاحتكام إلى الدستور. جل هم الطبقة السياسية التهرب من الدستور والقوانين، وأفضل طريق لذلك، هو وضع اليد على القضاء وأجهزة الدولة الرقابية.
يصعب على «الحراك» الاتفاق على شعار «طبقوا» الدستور. ما تزال الأرجحية للمطالب من جهة، وهذا إنجاز، وللشعارات من جهة ثانية. إن خريطة طريق إنجاز الشعارات، موجودة في النصوص الدستورية، وما على الحراك سوى أن يجعل الدستور أولاً. والدستور اللبناني، علماني ديموقراطي برلماني يوفر المساواة والعدالة في الحقوق والواجبات ويفتح الطريق للانتقال، من دويلات الطوائف، إلى دولة المواطنة.
فليحرر الحراك الدستور اللبناني من براثن «التوافقيين» الذين يعطلون الدستور، ويتجاوزونه، ولا يلجأون إليه، إلا لتزيين «التوافق» وتذييله بالمواد التي تتفق والتسوية.
بين المشهد المغلق داخل قاعة «الحوار» المغلقة، وبين «الساحة» المفتوحة أمام حراك الأجيال اللبنانية، فرق شاسع. إننا في عالمين: الأول انتهت صلاحياته ومواصفاته بائدة، فيما الثاني، جديد واعد وبحاجة إلى قوة دفع ذاتية، توفرها الصدقية والديموقراطية والرحابة والتنوع وأساليب الاشتباك السلمي المبتدعة.
بالأمس، كان لبنان منقسماً انقساماً صحياً. والمعركة مفتوحة بين جيل جديد وبين أجيال أوصلت لبنان إلى… «النفايات».