الاجتماع الأخير للّجان النيابية المشتركة أكّد المؤكّد بأنّ البلد يُحكم في مكان آخر. فبَعد إعلان فشلِها الذريع والمتكرّر في إيجاد مخرج لقانون جديد للانتخابات من المفترض أن تُجرى الانتخابات النيابية المقبلة على أساسه، أحالت إخفاقَها من دون أيّ تردّد أو أيّ إسناد دستوري أو قانوني إلى طاولة هيئة الحوار الوطني، لنُصبحَ مرّةً جديدة أمام مشهد وتجربة لا دستورية غريبة.
فالسلطة المنتخبة من الشعب تحيل يأسَها وإخفاقها أمام هيئة لا ينصّ عليها أيّ نصّ دستوري ولا تملك أيّ مشروعية قانونية، هيئة منذ نشأتها في 20 آذار 2006 على شكل طاولة مستديرة موَقّتة راحت تتمدّد، تتشعّب وتتنظّم، لتصبحَ المرجَع الأساسيّ والمركزيّ في التركيبة السياسية اللبنانية، خصوصاً عند اتّخاذ القرارات الصعبة والمصيرية، أو القرارات التي لا تجد حلّاً لها ضمن المؤسسات والسلطات الدستورية.
فعلى طاولة هذه الهيئة تمَّ حلُّ مشكلة النفايات المستعصية، وفي أحدِ اجتماعاتها تمّ الاتفاق على تعيين أسماء المجلس العسكري… وكان كلّ اتّفاق بين أركانها يُتوّج دائماً بتصديق السلطة التنفيذية، أي مجلس الوزراء عليه من دون أيّ اعتراض أو مناقشة.
بالإضافة إلى كلّ ذلك يلاحَظ أمران، الأوّل أنّ هذه الهيئة قد تحوّلت إلى شِبه نادٍ مغلَق من السهل الخروج منه ولكنْ من المستحيل الدخول إليه إلّا بموافقة مجموع أعضائه، والأمر الثاني أنّه باتَ للهيئة أعراف وتقاليد سواء في اجتماعاتها أو في آليّة اتّخاذ قراراتها، فمواعيد اجتماعاتها يُحدّدها رئيس الطاولة.
وفي أيامنا هذه فإنّ رئيسَ المجلس النيابي صاحبَ فكرة الهيئة هو من يُحدّد المواعيد، وهو من يقبَل اعتذارات الصفّ الأوّل ومن يمثّلهم عند غيابهم وطريقة جلوس رجال الصف الأوّل وأماكن مرافقيهم من الصف الثاني، ودور أمانة سرّ الهيئة ومتى يمكنها نشرُ محاضر جلساتها… أمّا جدول أعمالها فغريب عجيب، إذ ينتقل بسرعة وخفّة بين التنظير السياسي العام واتّخاذ القرارات التنفيذية اليومية.
وأضحى لآليّة اتّخاذ القرارات أعراف وتقاليد تكاد تكون ثابتة، إذ إنّ بعضَها يحتاج إلى موافقة جماعية من أعضائها، وأيّ اعتراض يشكّل بحدّ ذاته فيتو على القرار المطروح فيُسقطه، والبعض الآخر يحتاج فقط إلى موافقة مكوّناتها الرئيسة، أمّا القرارات التي تتعلق بمنطقة أو بطائفة ما فيُكتفى بموافقة الجزء المعني بها.
وحينما نتكلّم عن اتّخاذ القرارات من المهم الإدراك بأنّ معظمها يُتّخَذ في كواليس مقرّات الصف الأوّل… خارج اجتماعات الطاولة الرسمية. كلّ هذه الوقائع تؤكّد أنّ التشاطرَ اللبناني قد تجلّى بكلّ وضوح في هذا المجلس المِلّي العابر للدستور وللقوانين، وبحجّة المحافظة عليهما وبالطبع على السِلم الاهلي…
إنّه اختراعٌ لبناني في زمن تراجُع التدخّل الإقليمي والدولي في أمورنا اليومية، مثلما كان الوضع عليه في سنوات تطبيق «الطائف» من النظام السوري وبمباركة إقليمية دولية…
مِن هنا وبَعد إحالة إشكالية القانون الجديد للانتخابات النيابية إلى أعلى «هيئة تشريعية»، وفي ضوء نتائج الانتخابات البلدية وتداعياتها، علينا أن نتوقّع قانوناً جديداً أو حلّاً يُناسب أعضاءَ هذه الهيئة ويَحفظ الأسسَ التي قامت عليها الطاولة.
أمّا الشعارات والمبرّرات للدفاع عن خيارات وقرارات الهيئة فحاضرةٌ ومِن أهمّها الحفاظ على الاستقرار والتنوّع والانصهار الوطني والخصوصية اللبنانية… أمّا التمثيل الصحيح والديموقراطية الحقيقية وحكمُ الشعب بواسطة الشعب أو مَن يمثّله وتطبيق اتّفاق «الطائف» وتلبية الآمال الحقيقية للشباب، فلا مكانَ لها في الوقت الحاضر على هذه الطاولة.