تكثُر الدعوات في الآونة الأخيرة، إلى الحوار. وتكمن المفارقة في كون هذه الدعوات تصدر من جهة واحدة. في كلّ الدول يكون الحوار وسيلة لحلّ النزاعات، وليس وسيلة فولكلوريّة يمارسها الأطراف في ما بينهم لتسجيل النقاط بعضهم على بعض. ومن يدعو راهناً إلى الحوار هو الجهة ذاتها التي رفضته في الماضي وفرضت شروطها بقوّة السلاح غير الشرعي الذي تمتلكه. فما هي القطب المخفيّة في هذه الدّعوات؟ وهل من فائدة اليوم لكسر الجليد بين الفريقين السياسيّين المتنازعين؟
لكلّ حوار شروطه، إن توفّرت نجح، وإن لم تتوفّر تحوّل إلى استعراض للمعارف والقوى. الشرط الجوهري هو المساواة. ماذا وإلا فسيتحوّل الحوار إلى عمليّة فرض لشروط القوي على من لا تتوفّر عنده مقوّمات القوّة نفسها. ومخطئ مَن يظنّ أنّ هذا الحوار قد يبطل شروط القوّة في مرحلة ما. أو حتّى ممكن أن يتمّ استيعاب الإنفعال السياسي لمَن هو اليوم في قمّة المواجهة.
هذه الدّعوات الكثيرة الصادرة من جهة «حزب الله» هي للأسباب الآتية:
– أوّلاً: لشعور هذا الفريق بالمأزوميّة الوطنيّة تجاه الفرقاء الذين يعيش معهم.
– ثانياً: محاولة لفرض أجندته على الذين يتحاوَر معهم.
– ثالثاً: إنتزاع شرعيّة وجود لشروط القوّة التي يمتلكها، بمعنى آخر للسلاح.
– رابعاً: تحسين صورته النمطيّة دوليّاً ومحليّاً.
– خامساً: الدّخول في أندية المجتمع المدني الدّاعية إلى الحوار بهدف تحريف بوصلتها بشكل يخدم أجندته.
– سادساً: تصوير نفسه بدور»الرّاعي المحلّي» للسلام الدّاخلي الذي يستطيع أن ينتقل بعده لممارسة دور الضابط الإقليمي.
– سابعاً: استكمال السيطرة الكاملة دستوريّاً على الدّولة اللبنانيّة.
من هذا المنطلق، هذه الدّعوات ليست بريئة. فهي تندرج تحت سقف «الحرب الحضاريّة»، وتكمن أبهى تجليّاتها في الصراع على الهويّة الوطنيّة. ونجح «حزب الله» باضطلاعه بالدور الرياديّ في هذه الحرب، حيث استطاع العمل على نقاط الضعف عند بعض المجموعات الطائفية الأخرى؛ فهو نجح بتيئيس بعض منها، أو بتهجير بعضها الآخر، أو بتطويع مَن ما زال يرفض حتّى الساعة، المواجهة.
الجليد لا يكسَر بين اللبنانيّين بطاولة حوار، أو بمجرّد دعوة إلى حوار في نادٍ اجتماعيٍّ أو منتدى ثقافيٍّ أو حتّى بين حزبين سياسيّين أو أكثر. لكسر هذا الجليد المطلوب أوّلاً من الدّاعين أو المتداعين إلى جلسات حوار أو مجرّد لقاءات للحوار الاعتراف بلبنانيّتهم، مع القبول بمبدأ الهويّات المتعدّدة والتي تعتبَر الهويّة الدينيّة من أهمّها، لكن الأهمّ فيها هي هويّة الإنسان اللبناني كلبناني أوّلاً.
من هنا، المطلوب اليوم:
– أوّلاً: تفكيك لغم الحوار المضمَر قبل أن ينفجر بوجه اللبنانيّين كلّهم، لا سيّما أصحاب مشروع إيران في لبنان الذين حتّى الساعة، يبدو أنّ ارتباطهم الأوّل هو بأيديولوجيّتهم الدينيّة المذهبيّة لا بهويّتهم الوطنيّة الكيانيّة.
– ثانياً: العمل على لبننة كلّ الذين حتّى الساعة يرفضونها.
– ثالثاً: في حال رفض اللبننة، الذهاب بكلّ جرأة نحو البحث في كيفيّة قبول أحقّيّة كلّ «مجموعة حضاريّة» (طائفية) من المجموعات التي تشكّل النسيج اللبناني، بأن تعيش قناعاتها المتعدّدة من ضمن الدّولة اللبنانيّة وتحت كنف الكيانيّة اللبنانيّة.
ولا يعني ذلك الذهاب نحو تفكيك أسس الكيانيّة اللبنانيّة، والعودة إلى نظام الهويّات الإثنيّة التي تجعل من كلّ مجموعة مستقلّة تمام الاستقلال لأنّها تؤمن بالخلاف وليس بالاختلاف. بل هذا يعني التفكُّر في كيفيّة عيش هذه المجموعات حرّيّتها الكيانيّة في إطار الوحدة في التعدّد والتعدّد في الوحدة. ووحده الدّستور اللبناني القائم على أسس لامركزيّة يضمن ذلك.
من هنا، الدّعوة الحقيقيّة المفترَض أن تكون هي في العودة إلى الكتاب، أيّ الدّستور، وتطبيقه آنيّاً عبر الأوليّات التي تسمح باستعادة سير العجلة الطبيعيّة للحياة السياسيّة اللبنانيّة عبر انتخاب رئيس جمهوريّة قادر على إطلاق مسيرة الإصلاح الحقيقي، بدءاً بعمليّة استعادة السيادة اللبنانيّة، بالوسائل المحليّة عبر مؤسّسات الدّولة، مع الدّعم الدولي الكامل عبر تطبيق القرارات الدّوليّة لأنّها قد تكون الضمانة الوحيدة المتبقّية. وحذارِ إن نجح هكذا حوار مطروح أن يطيح بما تبقّى من هذه السيادة!