ما يقوله الرئيس نبيه برّي أمام زواره إن رفض البعض الحوار الذي يدعو إليه ليس مطلقاً: «كلٌّ يريده بحسب مزاجه وشروطه، وأنا أريده بحسب مصلحة الجميع». يضيف: «سأظل أسمّيه حواراً وليسموه هم (الفرنسيون) تشاوراً»
بين مَن يؤيد الحوار الذي يدعو إليه الرئيس نبيه برّي ومَن يرفضه هوة عميقة يصعب ردمها. الأولون يرونه شرطاً حتمياً لانتخاب الرئيس، والأخيرون يرونه محاولة فرض انتخاب مرشح أولئك لا انتخاب الرئيس. أما الحوار نفسه، المتضمّن في مبادرة رئيس المجلس، فمبنيٌّ على فرص ثلاث:
ـ أن يلتئم ويتفق الحاضرون على مرشح يصير من ثم إلى انتخابه للفور في دورة اقتراع أولى، منسجمة مع توافقهم على المرشح.
ـ أن يلتئم الحوار ولا يُتفق على مرشح ويذهب الحاضرون ما داموا يمثلون كتل البرلمان إلى دورات اقتراع متتالية إلى أن يُنتخب أحد مرشحيْن اثنين أو أكثر بالتنافس بالغالبيية المطلقة.
ـ أن لا ينعقد الحوار ويقاطعه أفرقاء أساسيون فيتعذّر مبرر دعوة مجلس النواب إلى انتخاب الرئيس، ولا حاجة بعد ذاك إلى دورات اقتراع.
ليست ثمة فرصة رابعة للحوار ما دام أضحى لصيق الانتخاب، وفي الوقت نفسه عدوّه ومقتله. إلا أن الفرصة الثالثة هي اليوم أكثر ترجيحاً من خلال المواقف المعلنة على الأقل في الاصطفافات الحالية: الثنائي الشيعي وحلفاؤه متمسّكون به، الكتل المسيحية الكبيرة مع حلفاء لها يمانعون، الحزب التقدمي الاشتراكي يفضّل رئيس تسوية والنواب السنّة ينتظرون كلمة السر السعودية. هؤلاء الثلاثة يملكون فيتوات يصعب تجاوزها: الكتلتان الشيعية والمسيحية وثالثتهما الكتلة الدرزية والسنّية صاحبة الفضل في توفير نصاب الثلثين لانعقاد جلسة الانتخاب. الفريق الثالث هذا مع حوار على إطلاقه وبلا شروط.
ما يسمعه زوار رئيس المجلس أنه ليس في وارد التخلي عن بنود مبادرته، القائلة بحوار الكتل من حول بند انتخاب الرئيس فحسب في خلال سبعة أيام تنتهي بتوجيه دعوة إلى جلسات اقتراع متتالية إذا اقتضى تعذّر التوافق.
عندما يُسأل عن اقتراح رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل إجراء حوارات ثنائية أو ثلاثية عوض جمع الكتل كلها إلى طاولة الحوار، وإذّاك يصعب التفاهم وتمسي الطاولة حوار طرشان، يجيب: «الحوار إما يكون موسّعاً ويضم الجميع أو لا يسمى حواراً. ما أدعو إليه هو الحوار الذي يجمع الجميع. لست في وارد حوارات ثنائية وثلاثية ولا تفاهمات ثنائية وثلاثية، في الأصل لم أجرها قبلاً ولن أفعلها الآن».
في المقلب الآخر مما يقوله رئيس المجلس، يُنقل عن الكتلة الأوسع تمثيلاً بين الرافضين المبدئيين للحوار، هي كتلة نواب حزب القوات اللبنانية، النقيض تماماً. يميزها عن الكتلة المسيحية الأكبر عدداً منها التيار الوطني الحر أن هذه تطلب حواراً بشروطها، فيما الندّ المسيحي الآخر لا يريده في المطلق. في المواقف المعلنة يجهر حزب القوات اللبنانية برفض كامل لحوار يسبق انتخاب الرئيس أياً تكن مبرراته. في حسبانه لا استحقاق يتقدم ذاك الدستوري المعلق. أما في الجلسات المغلقة فله أسئلة مشروعة في مناقشته أسباب رفضه الجلوس إلى طاولة يعدّها غير مجدية في ظاهرها وأقرب إلى فخ في باطنها.
ثلاثة تساؤلات مشروعة لجعجع عن جدوى الحوار
في ما يناقشه الحزب، ويُنقل عن رئيسه بالذات سمير جعجع، بعيداً من مظاهر التعبئة الشعبية في خطبه وبياناته وتصريحات قيادته واتهاماته المساقة إلى حزب الله أولاً وضد الثنائي الشيعي ثانياً، ثلاثة تساؤلات يملك سلفاً أجوبة سلبية عنها كافية في منطقه لأن لا يشارك هو وحلفاؤه في أي حوار يُدعى إليه:
أولها، يكون الحوار حاجة ضرورية وملحة ما إن يشعر طرفاه ويعترفان بداية بأن كلاً منهما أضحى في مأزق مغلق كي يقدّم حوارهما مخرجاً لهما معاً. اعترف الفريق المناهض للثنائي الشيعي ومنه حزب القوات اللبنانية بمأزقه عندما تعذّر عليه إيصال مرشحه الأول النائب ميشال معوض ثم مرشحه الثاني الوزير السابق جهاد أزعور، وهو الآن ـ مسلّماً بالمأزق ـ يطلب الوصول إلى «رئيس واقعي» يتاح التوافق عليه من الأفرقاء جميعاً. في المقابل لا يعترف الثنائي الشيعي وحزب الله بالذات أنه أضحى بدوره في مأزق كالآخرين، بل يتصرف بمكابرة كأنه مصيب بتمسّكه بمرشحه الوزير السابق سليمان فرنجية، وفي الوقت نفسه عاجز عن انتخابه وإقناع سواه به. لا يسلّم كذلك كالفريق الآخر بأنه في طريق مسدودة معوّلاً على عامل الوقت.
في المنطق الذي يقول به حزب القوات اللبنانية، أن الحاجة إلى الحوار وإلى أولويته ـ وإن تجاوزاً للأطر الدستورية الموصدة في ظل التوازنات القائمة ـ تمسي ضرورية عندما يعترف الأفرقاء جميعاً بأنهم بلغوا المأزق ويتطلّبون إيجاد مخرج. يصبح الحوار عندئذ حتمياً عند الفريقين المستسلميْن للعجز كي يتبادلا التنازلات.
ثانيها، لم تبنْ في المحاولات الأخيرة أي جدية في مقاربة الحوار المفيد والمفضي إلى نتائج إيجابية. دعا الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، غير المنخرط في أي عداء حالي مع حزب الله، إلى رئيس تسوية وإلى الحوار مع الأمين العام السيد حسن نصرالله على انتخاب الرئيس و»مستقبل لبنان»، فلم يُستجب بمبادرة أو اتصال أو ملاقاة. كذلك الحوار المتواصل بين حزب الله وحليفه العائد التيار الوطني الحر منذ ما بعد جلسة 14 حزيران لم يتقدم خطوة إلى الأمام، ولا يزال يراوح مكانه سواء حيال انتخاب الرئيس أو السلة السياسية التي يناقشانها. عندما يخفق طرازا الحوار هذان وهو ثنائي، ما عساه يحصل إلى طاولة عريضة يجلس فيها الفريقان الأكثر تبادلاً للعداء والكراهية وهما حزب الله وحزب القوات اللبنانية؟
ثالثها، الجلوس إلى طاولة مفتوحة على كتل نيابية كبيرة وصغيرة متفاوتة الحجم والدور والحيثية، سيؤدي إلى تجميع الثنائي الشيعي أكبر عدد منها مؤيّدة لمرشحه في مواجهة ثلاث أو أربع كتل معارضة، كي تؤول الحصيلة إلى ما يشبه انتخاباً معنوياً وسياسياً لفرنجية بغالبية ممثلي الكتل الحليفة، وإتاحة الانطباع بأن مناوئيه أقلية. تالياً يراد من الحوار بهؤلاء جميعاً «بروفة» الوصول إلى انتخاب مرشح الثنائي الشيعي المتمسّك به على أنه الوحيد الموثوق به لديه وتعوزه التزكية المستعصية.