Site icon IMLebanon

الحوار الخليجي – الروسي: أهداف متواضعة

غايات الحوار الاستراتيجي بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي الست ليست معقدة، لكن تحقيقها يمر بمحطات تتطلب من الدول الخليجية حسم أمرها في أكثر من مسألة. هذا الأسبوع، وفي موسكو، تأتي الجولة الحالية من الحوار الاستراتيجي تحت الرئاسة الدورية للسعودية وسط اختلاف جذري في شأن سورية بإقرار الطرفين. إنما الخصمان، عملياً، في الملف السوري مصرّان على نسج علاقات ودية، كلٌّ لغاياته الثنائية والجماعية، قد يكون بين دوافعها العلاقات الروسية – الأميركية والخليجية – الأميركية. موسكو أرادت من العواصم الخليجية الست الإقرار بالدور الروسي الرئيسي في مستقبل المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً وعقدت العزم على إبلاغ القادة العرب أن لا غنى عن روسيا لإيجاد الحلول. فرضت تلك المعادلة ميدانياً في سورية بالدرجة الأولى، وعبر علاقاتها التحالفية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الثنائية والإقليمية، وكذلك ملئاً للفراغ الذي اختارت الولايات المتحدة إيجاده بتخليها عمداً عن علاقاتها التقليدية مع الدول الخليحية. وهكذا كان. فعلى رغم المواقف الروسية المتناقضة جذرياً مع المواقف الخليجية في الشأن السوري والشأن الإيراني، أقرّت الدول الخليجية بما فرضته القيادة الروسية ووافقت على مبدأ الفصل بين الخلافات السياسية وتطوير العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية. اقتصادياً، المعادلة واضحة وهي قائمة على المصالح المتبادلة. أما استراتيجياً، فهنا المعضلة ما لم يكن تعريف العلاقات «الاستراتيجية» قد أصبح خالياً من المقومات التقلدية لمثل تلك العلاقات. وعليه، لربما حان الوقت لدول مجلس التعاون الخليجي أن تشرح ما في ذهنها وما هي سياساتها كي لا يُساء فهمها بل كي يتم فهمها وتفهمها لعل في الطيات مدخلاً إلى إيجابيات مدروسة.

واقعياً، ليس في الأفق ما يفيد بأن أي تقارب يحدث في المواقف الروسية والخليجية في ما يخص سورية. لا مؤشّرات إلى تفاهمات. أكثر ما يمكن التكهن به لربما هو نوع من تجميد الخلاف العلني تحت عنوان أو آخر. فروسيا واضحة في تحالفها الاستراتيجي مع إيران في سورية، وواضحة في عدم تخليها عن الرئيس بشار الأسد مهما لمّحت بذلك عبر معادلة التمسك بالنظام وليس بالضرورة بالرجل، وهي عازمة على أن يكون لها موطئ قدم دائم في سورية.

الدول الخليجية لا تعارض توطيد الأقدام الروسية في سورية، وهي متشوقة للفصل بين النظام والرجل في الرئاسة، لكنها متمسكة بضرورة عدم بقاء بشار الأسد في السلطة. الخلاف الأساسي، إذاً، هو شخص الأسد لا الاستراتيجية الروسية البعيدة المدى في سورية؟ إنها تعترف بمركزية الدور السياسي الروسي في مستقبل سورية. لكن الدول الخليجية تدرك تماماً أن الدور العسكري الروسي التحالفي مع الأسد هو الذي يبقيه في السلطة وهو الذي يضرب جذرياً المعارضة السورية التي تدعمها الدول الخليجية.

فالخلاف ليس شفوياً أو تجميلياً. إنه اختلاف جذري يُترجَم على ساحة القتال وفي الموازين العسكرية ميدانياً. روسيا طرف مباشر ميدانياً في الحرب التي تخوضها دول خليجية عبر دعم مجموعات من المعارضة السورية بصورة مبعثرة وبأيادٍ مقيّدة أميركياً نظراً إلى أن توفير الأسلحة النوعية الضرورية لقلب الموازين العسكرية يتطلب موافقة واشنطن على اعطاء هذه الأسلحة الأميركية إلى أطراف ثالثة. أو، لعل ذلك عذر لبعض الدول الخليجية لأنها ليست موحّدة في تحديد مَنْ مِنَ المعارضة السورية يستحق المجازفة. فهناك الصواريخ الصينية المضادة للطائرات السورية المحلقة على ارتفاع تطاولها من دون أن تطاول الطائرات الروسية المرتفعة التحليق. حتى هذه الذخيرة لم يُفرَج عنها باكراً، فيما يحقق محور روسيا وإيران و «حزب الله» والميليشيات الأخرى التابعة للحرس الثوري الإيراني إنجازات ضخمة ميدانياً لمصلحة النظام ورئاسة الأسد.

مصدر رسمي خليجي رفيع المستوى قال: ليس هناك استعداد للتخلي عن المطالبة الخليجية بإقصاء الأسد عن السلطة، لأن بقاءه مرفوضٌ قطعاً. ليس هناك استعداد لضخ الأسلحة النوعية الضرورية خوفاً من ردود الفعل ضد الدول الخليجية من جانب مجلس الأمن الذي يحظر تسليح المجموعات المسلحة القادرة على قلب الموازين العسكرية. وأمام هذا الواقع، ما تسعى إليه الدول الخليجية أثناء حوارها الاستراتيجي مع روسيا هو إقناع موسكو بإقامة علاقات أفضل مع المعارضة السورية التي تحقّرها حالياً، للكف عن استبدالها بما يُعرَف بالمعارضة السورية المقبولة روسياً – أي المقبولة لدى بشار الأسد.

الطموحات الخليجية، إذاً، في الحوار الاستراتيجي مع روسيا متواضعة. وما قاله المسؤول الخليجي إنما هو رسالة على المعارضة السورية أن تحسن قراءتها. ففي أقصى الحالات، كما يبدو، الآتي ليس تعهداً روسياً بالكف عن ضرب المعارضة السورية المسلحة ميدانياً، وليس تسليحاً نوعياً للمعارضة السورية حتى مع الإفراج عن الصواريخ الصينية. إنه وصفة اقتتال في معادلة الاستنزاف، وليس وصفة تفاهمات استراتيجية على وقف النزيف في سورية.

الحوار الاستراتيجي الروسي – الخليجي له بعد إيراني يتعدى دور طهران في سورية. موسكو تريد أن تكون عرّاب العلاقة الخليجية – الإيرانية، وهي عرضت وساطتها التي لم تلق ترحيباً سعودياً في مرحلة ما. المواقف الخليجية في الشأن الإيراني متجانسة، تطالب روسيا بالضغط على طهران الإيرانية لكبح طموحاتها الإقليمية. لدى موسكو فكرة مختلفة عن التقويم الخليجي للغايات الإيرانية، لا سيما أن الشراكة الروسية – الإيرانية في سورية استراتيجية وليست فقط تكتيكية.

ما تعرضه موسكو على دول الخليج هو أن تكون الوسيط الذي يضمن شريكها الإيراني شرط أن تقبل الدول الخليجية بفضاء أمني مشترك، وأن توافق على تقاسم النفوذ الإقليمي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. دول مجلس التعاون تعارض الفكرة على أساس رفض تشريع النفوذ الإيراني في الدول العربية الرئيسة، أي سورية والعراق تحديداً. وهي لا تثق بالطروحات الأمنية الروسية أو الأميركية التي تدعو إلى نظام أمني جديد في منطقة الخليج والشرق الأوسط يضمن لإيران موقعاً يمكّنها من إملاء تفوقها في المعادلة الأمنية.

روسيا تريد أن تسمي ما تطرحه أنه تقاسم نفوذ في الشرق الأوسط، أي في المنطقة العربية. وهي، بذلك، على توافق مع الإدارة الأميركية التي تشاركها العزم على إقناع الدول الخليجية بأن تقبل «تشريع» الدور الإيراني في الدول العربية. وموسكو تضع لمساعيها هذه عنوان «الوساطة» الروسية لإقامة «توازن» في العلاقة الروسية – الخليجية والروسية – الإيرانية.

هنا أيضاً، وكما في الاختلاف حول إفرازات العلاقة الروسية – السورية هناك خلاف حول مفاهيم العلاقة الخليجية – الإيرانية بحسب القاموس الروسي – الأميركي. وليس جلياً ما إذا كان ذلك الحوار الاستراتيجي الروسي – الخليجي قد سجَّل أي تقدم في هذا المجال سوى في ملفات كاليمن وليبيا.

ففي موضوع اليمن، ما زالت روسيا حذرة تلعب أوراقها بدقة بالغة. فهي تسعى وراء الدخول خلسة إلى الحلبة اليمنية من خلال طروحات الشراكة الروسية – الأميركية في إدارة الملف، وهو أمر يثير شكوك بعض الخليجيين الذين يشيرون إلى الشراكة الأميركية – الروسية في سورية كإنذار ومثل يجب الاقتداء به لتجنب تقديم هذه الوصاية على المسألة اليمنية، إنما موضوع اليمن لا يحتل الأولوية في الحسابات الروسية وهو أضعف الأوراق.

كذلك العراق ليس في الأولويات الروسية لأن موسكو سلّمت بأنه للإيرانيين، وإن الملف في الأيادي الأميركية. ما تريده موسكو، بحسب مراقب مطلع، هو العقود ضماناً للمصالح الروسية في العراق. الحرب في العراق لا تهم موسكو. ما يهمها هو المصلحة الاقتصادية والطمع بالعقود.

أما في ما يخص فلسطين وإسرائيل، فإن موسكو عازمة على العلاقة الممتازة مع إسرائيل وعلى الحفاظ على ما تعتبره توازناً في علاقاتها الفلسطينية – الإسرائيلية. «الحياة» كتبت قبل أيام أن تعيين أفيغدور ليبرمان وزيراً للدفاع في إسرائيل «خبر سار» لروسيا. نقلت عن وسائل الإعلام الروسية أن الرجل «صديق مقرّب للرئيس فلاديمير بوتين» وأن الكرملين ينظر إلى المشهد السياسي بدءاً من التنسيق القائم بين موسكو وتل أبيب في سورية وتعزيز العلاقة مع طهران. أما في ما يخص فلسطين، فإن موسكو راغبة جداً في دعم «دفن» المبادرة الفرنسية التي تعارضها إسرائيل لأنها تريد لنفسها امتلاك مبادرة بديلة لم تكشف عنها. لكن الأولوية الروسية ليست فلسطينية وإنما تنطلق من مصلحتها الإسرائيلية بالذات لجهة العلاقات الإسرائيلية – التركية التي يخدم تعيين ليبرمان في زيادة توترها.

عملياً، إذاً، ليست هناك أسس عديدة لعلاقات استراتيجية روسية – خليجية. الحوار جيد كخيار بالتأكيد. إنما المطلوب هو الوضوح في غايات الحوار الاستراتيجي بغض النظر عمّا إذا كان روسياً – خليجياً أو خليجياً – أميركياً. فالمنطقة العربية ليست في حال انفراج أو في حالة اعتيادية تسمح لها بالركون إلى حوارات استراتيجية مفتوحة بلا أفق زمني. إنها تغلي في دموية ومأساة مفتوحتين على المزيد.