من أجل أن يُثمر أيّ حوار أو مشروع أو تصوُّر، يجب أن يستند إلى قراءة موحّدة للأحداث السياسية. فالدكتور فارس سعَيد، على سبيل المثال، أعاد عشيّة الذكرى العاشرة لانتفاضة الاستقلال، ترتيبَ الأحداث بين 14 آذار 2005 و14 آذار 2015، من أجل توحيد القراءة حولها والخروج أخيراً بوثيقة سياسية وتصوّرٍ تنظيمي. فما المطلوب من الحوار القواتي-العوني؟
المطلوب من الحوار القواتي-العوني توحيد القراءة السياسية للأحداث في لبنان والمنطقة، والمقصود بتوحيد القراءة ليس أن يتبنّى أحد الطرفين وجهة نظر الآخر، بل أن يتقاطعا ويتوافقا على الآتي:
أوّلاً، أنّ حوارَهما ليس نتيجة لشعور أحدهما بأنّ فشلَ خياراته أو قربَ انهيار منظومته هو الذي دفعَه إلى الحوار والتقارب وربّما التوافق، لأنّ أيّ قراءة من هذا النوع ستُجهِض الحوار من أساسه.
فإذا كان فريق العماد عون يعتقد أنّ المشروع الإيراني سينتصر، وأنّ المسافة الفاصلة عن هذا الانتصار لا تتعدّى الأشهر وحتى الأسابيع، وأنّ على رئيس «القوات» أن يستلحقَ نفسَه قبل فوات الأوان، فعلى هذا الفريق أن ينتظر الانتصار الإيراني، وأن لا يتوقّع شيئاً من «القوات»، ويُستحسَن في هذه الحال العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة تحت عنوان المواجهة حتى قيام الساعة، ولينتصر الأقوى.
وإذا كان بالمقابل فريق الدكتور سمير جعجع يتوقّع انتصاراً للمشروع السعودي، فما عليه سوى انتظار هذا الانتصار بعيداً عن أيّ حوارات ترمي إلى شراء الوقت والكلام عن مُثلٍ عليا لا مكانَ لها في السياسة.
فالحوار الذي يُفترَض أن يَنتجَ عنه اتّفاقٌ يجب أن يرتكز على قراءة مشترَكة فحواها أنّ الأزمة في المنطقة طويلة، وأن لا حلول في الأفق، وأنّ التوازن السعودي-الإيراني مرشّح للاستمرار، وأنّ الملف النوَوي سيبقى مفتوحاََ ويجرجِر، وأن لا تعديل في الستاتيكو القائم في لبنان.
ثانياً، أنّ الهدف من حوارهما ليس تقاسمَ السلطة والنفوذ، بل تعزيز الحضور المسيحي الذي بدأ يعاني من أعطابٍ بُنيوية، وبالتالي حاجته في الشكل إلى صدمةٍ إيجابية تُعيد إليه الروحَ والمعنويات، وفي المضمون إلى خطّة عملٍ تُعيد المسيحيين إلى الدولة وتُثبتهم في أرضهم وتُبقي لبنان مساحةً لأحلامهم في مستقبل لهم ولأولادهم، وهذا الهدف ليس موجّهاً ضدّ أيّ مكوّن إسلاميّ، بل عرقلتُه تعني أنّ الكلام عن العيش المشترَك وأهمّية الوجود المسيحي هو كلام لفظيّ خالٍ من أيّ مضمون.
ثالثاً، أنّ المطلوب من حوارهما خَلق دينامية وطنية جديدة بَعد الرتابة التي طبَعت الحياة السياسية في لبنان، وهذه الدينامية لا يمكن خلقها خارج المؤسسات، بل تتطلّب حضوراً قوياً بدءاً من رئاسة الجمهورية يُعيد الدور المسيحي إلى الواجهة في ظلّ موقفَين إسلاميَين انتظاريَين.
رابعاً، أن لا يكون حوارُهما ظرفيّاً أو آنيّاً، بل منطلقاً لوحدة صفّ مسيحية تجمع كلّ الأحزاب والشخصيات بعيداً عن الثنائية والاختزال، وتكون أولويته إعادة الوزن السياسي للمسيحيين داخل المعادلة الوطنية اللبنانية.
خامساً، أن يكون واضحاً أنّ وصولَ عون غير ممكن من دون موافقة جعجع، وهذا لا يجعل رئيس القوات وصيّاً على رئيس التيار، بل شريكاً في الهَمّ الوطني-المسيحي.
سادساً، أن يكون واضحاً أنّ وصول عون لا يعني انتصاراً لطهران، لأنّ الأخيرة لم تستطِع إيصاله بأدواتها الذاتية، ومن دون موافقة جعجع وعدم ممانعة السعودية والرئيس سعد الحريري لا يمكن لعون أن يجتاز عتبَة قصر بعبدا. فأيّ تصوير مختلف، الهدفُ منه الاستفزاز وقطعُ الطريق على وصول عون.
سابعاً، أن لا يشكّل الوصول إلى الرئاسة مناسبةً لإلغاء الآخرين، لأنّ هذه السياسة لم تُثبت فقط عدمَ جدواها، بل كارثيتَها على الوضع المسيحي.
ثامناً، أن يكون عونُ الرئيس غيرَ عون المرشّح، بمعنى أن لا يواصلَ دورَه كرأسِ حربةٍ لمشروع «حزب الله»، بل أن يكون على مسافة واحدة من الحزب و»المستقبل».
تاسعاً، أن تكون الأولوية إبقاءَ لبنان في الوضعية الانتظارية التي وضعَته فيها الأحداث، وكان السَبّاق إليها النائب وليد جنبلاط ومن ثمّ «المستقبل» و«حزب الله»، كلٌّ لاعتباراته، مع فارق تحويل الواقع الانتظاري مفيداً للمسيحيين بدلاً من أن تكون تداعياته سلبيةً عليهم، على غرار الوضع الحالي.
عاشراً، أن يتمّ الاتفاق النهائي في بكركي بحضور البطريرك بشارة الراعي وسفير الفاتيكان لدى لبنان غبريال كاتشا.
ويبقى على عون أن يتذكّر أنّ قوّة الرئيس نبيه برّي مرَدُّها إلى قوّته الذاتية وتحالفِه مع «حزب الله»، وأنّ قوّته الذاتية لوحدِها غير كافية لتحصين موقعِه وإدارة لعبتِه. ويبقى على «القوات» أن تدركَ أنّ دخولها على الحوار يُرتّب عليها مسؤوليّات، إذ لم تكن مضطرّة إطلاقاً أن تخطوَ هذه الخطوة وهي تعرف سَلفاً أنّ أولويّة عون هي الرئاسة، وبالتالي المسألة تتطلّب قراراً لا مزيداً من الحوار….