هل لمس أقطاب نظام المحاصصة الطائفية في لبنان الأبعاد المستقبلية لما حملته مظاهرات بيروت المطلبية من رسائل سياسية؟ أم ما زالت تصح فيهم مقولة المثل اللبناني الشعبي، «دق الماء تبقى ماء»؟
أبسط ما يمكن استخلاصه من الانتفاضة الشبابية على النظام أن استمراريته في وضعه الحالي المترهل لم تعد مضمونة بعد أن أفرز، على مدى العقد المنصرم، دولة فاشلة على كل الأصعدة – السياسية والاقتصادية والإدارية.
ببساطة كلية، المرحلة التي يعيشها لبنان حاليًا هي مرحلة تغيير النظام لا تجميله. ولا يبدو مستبعدًا، بعد أن كشفت مظاهرات بيروت عمق الهوة التي تفصل السلطة عن الشارع، أن ما تذرع النواب به من أوضاع أمنية خطرة في المنطقة، قد لا تكون الدافع الوحيد لإقدامهم، مرتين، على تمديد ولايتهم البرلمانية، بل خشيتهم من مواجهة ناخب طفح كيله من السنوات العجاف التي يعيشها في عهدهم.
لافت أن المؤشرات الأولية لرد فعل الأقطاب على رسالة المظاهرات لم تخرج عن إطار «العود على بدء»، وتحديدًا إلى تجربة حوار عام 2006 التي أظهرت أن أي حوار سياسي بين أقطاب النظام الواحد ينتهي بتأكيد خلافاتهم.. وليس بالضرورة حل عقد لبنان ومشكلاته.
مع ذلك، شتان بين حوار عام 2006 وحوار عام 2015 الموعود.
عام 2006، ما سمي «الحوار الوطني» كان حوارًا بين تيارين من أعمدة نظام سياسي واحد، تيارين متفقين بالذهنية ومختلفين بالولاءات – أي فريق «8 آذار» وفريق «14 آذار» – فكان من الطبيعي أن يقتصر الحوار عليهما وحدهما، كما كان من الطبيعي أيضًا أن يخلص إلى تفاهم ضمني على كسب الوقت لإطالة أمد تحكمهما بالسلطة.
أما في عام 2015، فقد تحول «الآذاريون» – سواء انتموا إلى «8 آذار» أو «14 آذار» – إلى فريق سياسي واحد يواجه جيلاً صاعدًا يحمل رؤية عصرية للدولة ومفهومًا مدنيًا لدورها. ومع ذلك يصر «الآذاريون» على دفن رؤوسهم في الرمل ومحاورة أنفسهم بأنفسهم بمعزل عن ممثلي المجتمع المدني والحراك الشبابي رغم أنهما دافع دعوة الحوار وموضوعها في الوقت نفسه.
إقصاء ممثلي المجتمع المدني عن أي حوار جدي حول مستقبل النظام اللبناني لا يفقد هذا الحوار مصداقيته فحسب، بل يفوت على المتحاورين فرصة إصلاح النظام من داخل النظام وقبل أن تنهار مؤسسة الدولة على رؤوس الجميع.
يعلم معظم «الآذاريين»، في قرارة أنفسهم على الأقل، أن «خصام» اليوم فيهم جميعًا بلا استثناء، بمن فيهم اللاهثون وراء مصالح إيران الإقليمية على حساب الإصلاحات الداخلية، والمأخوذون بوهج الرئاسة اللبنانية الأولى وطرق اصطيادها، والغارقون لأذنيهم في ملاحقة الماضي بانتظار «يوم العدالة».
ولكن ما لا يرغب «الآذاريون» الاعتراف به هو أنهم لم يعودوا «الخصم والحكم» في آنٍ واحد، فهناك جيل صاعد منعتق من الاصطفافات «الآذارية» يُحمّل كل «الآذاريين»، بمختلف تلاوينهم السياسية، مسؤولية حالة التردي التي يتخبط بها بلدهم اليوم.
ألا يكفيهم دليلاً على ذلك أن لا تتوانى شريحة واسعة من لبنانيي الداخل عن إهانة كل سياسيي «النظام» دون استثناء بالحدة التي كشفت عنها مظاهرات بيروت الأخيرة؟
ألا يكفيهم أيضًا أن يرتضي لبنانيو الخارج نشر غسيل بلدهم الأم، بكل أوساخه، على أسطح العديد من عواصم العالم الكبرى ودول الانتشار اللبناني؟
مع ذلك، ورغم كل ما كاله المتظاهرون من شتائم كانوا بغنى عنها، وما حملوه من شعارات لاذعة، لم يتخلوا عن المطالبة بإعادة «الدولة» – العادلة والنزيهة – إلى لبنان.. فهل يلتقط «الآذاريون» هذا التوجه الإيجابي لبناء علاقة حوار مثمرة مع المجتمع المدني والاتفاق على قانون انتخاب نسبي يوسع قاعدة التمثيل الشعبي وينوعه بحيث يصبح المجلس النيابي القناة الدستورية لإعادة صياغة لبنان المستقبل؟