أصل الحكاية… كسّارات. من كسّارات المديرج – زحلة التي كسَرت ظهر الدولة بمئات الملايين من الدولارات تعويضات… الى حكايات الكسّارات في جرود عرسال، وملاعب القبضايات… الى فخّار يُكسِّر بعضه نتيجة «دوبل سرفيس»، كأن تخرج القوافل مع ساعات الفجر الأولى الى الجرد محمّلة بكل ما هو مطلوب ومرغوب، ومع هبوط الليل تتحرّك قوافل المسلحين من الجرد تحت أجنحة الظلام الى مواقع الكسارات «لشَفط» المؤن والحاجات.
آلاف من ربطات الخبز يوميّاً، صهاريج من المحروقات، الكسّارات شغّالة، ومنشار المصالح ينشط «ع الطالع والنازل»، والمستفيدون كثر من «المال الحلال».
حاول الجيش ضبط المعابر لضرورات أمنيّة، فانتفض البعض، الكسّارات مستهدفة، والربح السريع أيضاً، ولا بدّ من الضرب على الوتر المذهبي لينتظم الحشد، «أهل السنّة» في خطر، فيما الخطر الحقيقي هو عند أولئك الذين يستغلّون طيبة «أهل السنّة»، لتمرير «المصالح الخاصّة، وحماية المزاريب».
كسّارات الجرد العرسالي مشهد طارئ على يوميات الحوار. كان الاهتمام منصبّاً على تثمير لقاء عين التينة وتوظيفه في أكثر من اتجاه لتعميم الإسترخاء، وإذ بالاعتراضات المفتعلة ضدّ تدابير الجيش تصدم المرجعيات الوطنيّة، وما يجري يستحق الإهتمام والمعالجة. لا يمكن أن يكون زناد الوطن محاصراً بين المطرقة «الداعشيّة» من جهة، وسندان «أهل السنّة» في عرسال من جهة أخرى، إلّا إذا كان المخطّط المرسوم يقضي بضرب الحديد وهو حامٍ، مع الإبقاء على الحوار لإعادة تفعيله عند الضرورة.
يتجه السوريّون بدورهم الى الحوار. حوار حول جدول الأعمال، وجدول أعمال لا يملك زمام أمره أيّ طرف، لأنّ أولوياته مسلوخة من الأرض، والأرض لا تتحكّم بها الجهات المتحاورة وحدها، بل هناك آخرون، وهؤلاء خارج الطاولة، وقادرون على التعطيل.
كان مشهد عين التينة أكثر دلالة، توزّع الوكلاء حول الطاولة نيابة عن الأصيلين. جلس أصدقاء الثورة السوريّة والمتعاطفين معها، قبالة الذين يقاتلون الى جانب النظام، واقتصر جدول الأعمال المُعلن على بند وحيد «الحدّ من التشنّج»، فيما جدول الأعمال الأصلي مسلوخ من الوقائع على الأرض. رسم الرئيس فؤاد السنيورة بعض خطوطه العريضة في رثائيته في ذكرى اغتيال محمد شطح، ورسم الجيش البعض الآخر، عندما وجد نفسه وحيداً يواجه على محورين: محور الإرهاب المتغلغل في الجرد، ومحور العرساليّين المعترضين.
مخيفة هي التناقضات ما بين مشهدي عين التينة وعرسال. هنا حوار للحد من التشنّج، وهناك استنفار لمضاعفة التشنّج، والمسألة برمّتها أبعد من عرسال وجردها، إنها في القُصير مجدداً، أو في القلمون، و»أم المعارك» التي تحضّر ليس لتوسيع دائرة الفتنة، بل لوضع حكومة المصلحة الوطنيّة أمام خيارات صعبة أقلها التنسيق مع الجيش السوري لكسب المعركة، أو الإصرار على سياسة «النأي بالنفس» وتحمّل النتائج والتداعيات المكلفة.
يشبّه بعض ديبلوماسيي دول التحالف حوار عين التينة بـ»الوعاء الذي يريده الطرفان وسيعاً، لاحتواء ما أمكن من المتساقطات حتى لا يغرق لبنان بطوفان المذهبيّة». قد تكون المتساقطات قانونيّة. المحكمة الدوليّة مجتهدة، والرصاصة التي انطلقت منها قبل أيام، أصابَت مقتلاً، والرأس المستهدف يقال إنه برلماني ناشط في الحزب. ماذا لو تحوّلت الرصاصة قصفاً من العيار الثقيل، طاول رؤوساً كبيرة وأسماء لامعة؟ متساقطات المحكمة قد تفيض عن الوعاء الاستيعابي، وتحدث فتنة لا عودة منها.
قد تكون المتساقطات أمنيّة. الحوار السوري، إن نجح نسبيّاً، لا يمكن أن يمرّ «ع الرايق»، ولا بدّ من «همروجة» ربما في القلمون، او في المثلث الذي ترتع فيه الشياطين الإسرائيليّة: الجولان، البقاع الغربي، مزارع شبعا.
المهم أنّ هناك مخططات لا بدّ من أن تنفّذ، وتأخذ طريقها الى أرض الواقع. قد يكون الهدف من لقاء عين التينة اقتناع الطرفين بالعودة الى البيت اللبناني للاهتمام بشؤونه وشجونه، ولكن «المظلّة» الخارجيّة لم توفر له بعد كامل مستلزمات الأمان والسلامة. وبالتالي، فإنّ طهران مضطرة للإفصاح عمّا عندها: «لا يمكن لحكومة المصلحة الوطنية أن تستمر في سياسة النأي بالنفس التي تعتمدها، يجب أن تكون صادقة مع نفسها والآخرين: هل هي مع الإرهاب، أم ضدّه، أم بين بين؟».
تلتقي الولايات المتحدة الأميركية مع هذه النظرية مواربة: «على الجيش أن يحسم، ولينتصر في معركته مع الإرهاب لا بدّ له من أن ينسّق الجهود مع مَن يحارب الإرهاب في الداخل السوري. الرسالة وصلت، وعلى اللبيب أن يفهم الإشارات». فالزمن ليس زمن الحورات، لكنها مطلوبة لاستيعاب المتساقطات!