IMLebanon

«يوميات» برّي في عصر التقشّف

 

أفرز مشروع الموازنة التقشفية هواجس اجتماعية واقتصادية لدى شرائح واسعة من الشعب اللبناني، تخشى من أن تلجأ الدولة الى «قضم» حقوقها ومكتسباتها تحت شعار مواجهة العجز المالي ومنع الإفلاس. ومن الواضح أنّ كرة ثلج الاعتراضات النقابية والشعبية آخذة في التدحرج، على وقع النقاشات التي يخوضها مجلس الوزراء حول أرقام الموازنة وخياراتها.

 

ليس خافياً انّ البنيان الاقتصادي والمالي للدولة اللبنانية يترنح بفعل سنوات طويلة من الهدر والفساد وتراكم الدين وتفاقم العجز، الامر الذي اصبح يهدد بحصول الانهيار الكبير، ما لم تتمّ معالجةُ النزف ووقفُه قبل فوات الأوان.

 

ولعلها من المرات النادرة التي تستشعر فيها السلطة بالخطر الحقيقي وبالخشية من فقدان السيطرة على لعبة شراء الوقت والتحكم بأزرار الازمة، بعدما أحرقت خلال المراحل السابقة كثيراً من اوراقها واستهلكت معظم المسكّنات و»الحيل» التي سمحت لها بالصمود حتى الآن.

 

وما زاد من حَرَج السلطة انها وُضعت تحت مجهر مؤتمر «سيدر» ورقابة أقطابه بعدما رُبط الإفراج عن أمواله ومشاريعه بتنفيذ الاصلاحات وخفض العجز في الموازنة، ما وضع لبنان امام ضغط دولي غير مسبوق لاحترام التزاماته وتطبيقها.

 

وعليه، ضاقت مروحة الخيارات الممكنة و»الآمنة»، واندفعت الدولة المُحرجة والخائفة من السيناريو الأسوأ نحو البحث عن «وصفات» لتقليص الإنفاق وشد الأحزمة، على قاعدة التقشف وإعادة ترتيب الأولويات، ما أقلق كثيراً من فئات القطاع العام التي تخوفت من أن يأتي تصحيح الواقع المالي على حسابها، وسط كلام من هنا وهناك عن احتمال خفض الرواتب والمخصصات التقاعدية في اعتباره الشرّ الذي لا بد منه.

 

وإزاء هذا الخطر الداهم، تلاحقت خلال الايام الماضية التحركات الاعتراضية و»الوقائية» للفئات التي شعرت أن هناك تهديداً لحقوقها، واستسهالاً للمَسّ بها، خصوصاً انّ المحتجين يعتبرون انّ في إمكان الدولة ان «تعصر» النفقات عبر اقفال مزاريب الهدر والفساد المتدفقة «على عينك يا تاجر»، قبل اقفال جيوب الفقراء وذوي الدخل المحدود.

 

ولم يكتف اصحاب الاعتراضات برفع الصوت في الشارع أو في الاعلام، بل إنّ كثراً منهم يقصدون عين التينة لرفع شكواهم مباشرة الى الرئيس نبيه بري، إما بصفته رئيسا لمجلس النواب وإما بصفته الاخرى رئيساً لحركة «أمل». ومن يزور مقر الرئاسة الثانية هذه الايام يلاحظ زحمةً في الوفود المتأبطة الهموم الاقتصادية والاجتماعية، والساعية الى انتزاع ضمانات وتطمينات من بري الذي يبدي حرصا على الاستماع الى الجميع بأكبر مقدار ممكن من رحابة الصدر، لكنه يتجنّب في الوقت نفسه الالتزام بوعود قاطعة او قرارات نهائية، في انتظار أن يستكمل درس الوقائع وتبيان الحقائق، ليبنى على الشيء مقتضاه.

 

ينصت بري بدقة الى طروحات زواره المتذمّرين، ويناقشهم في تفاصيلها التقنية، فإما أن يرفضها إذا لم يقتنع بها وإما أن يتجاوب معها إذا وجد انها صائبة وإما أن ينصح بتعديلها. لكن الأكيد، انّ رئيس المجلس بات يعتمد معايير دقيقة وصارمة في تحديد موقفه، استناداً الى واقع الدولة المترهّل وقدراتها المتراجعة.

 

ما أن يخرج «العاشق» من عين التينة حتى يدخل «المشتاق». هذا يشكو من محاولة لخفض رواتب العاملين او المتقاعدين في المؤسسة التي يشرف عليها، وذاك يتخوّف من اقتطاع مكتسبات وامتيازات يلحظها القانون، وآخر يعتب على سلوك وزير المال علي حسن خليل محاولاً أن يستقطب عواطف بري ويستميله الى جانبه ضد اقتراحات معاونه السياسي.

 

ينادي بري على خليل المثقل في هذه الفترة بوطأة الارقام الحساسة والمطالب الشعبية المتصاعدة، بالترافق مع المداولات في شأن الموازنة. ينقل اليه مآخذ أحد المستنجدين بالرئاسة الثانية ويستفسر منه عن صحتها، متفادياً الانحياز التلقائي الى جانب وزير المال، فقط لأنه حركي أو معاونه السياسي.

 

يسعى بري بداية الى أن يقف في الوسط، مستمعاً الى مرافعتي الطرفين بحثاً عن إمكان التوفيق بينهما، فإن تعذّر عليه ذلك، يتّخذ قرارَه ويُصدر حكمه، تبعاً للوقائع المعروضة امامه.

 

يحسب بري الأمور جيداً قبل ان يدلي برأيه، موحياً انّ مرحلة المسايرة او المجاملة في التعاطي مع المظاهر النافرة في الدولة قد انتهت. بالنسبة اليه، توجد الآن «فرصة أخيرة لتحقيق الاصلاح الحقيقي ومكافحة مكامن الهدر والفساد»، مشدداً على «انّ مسؤوليتنا جميعاً تكمن في عدم التفريط بتلك الفرصة».

 

ويؤكد بري انه «حان الوقت للتوقف عن الغنج والدلع، ولمشاركة الجميع في بذل التضحيات وتحمل الأعباء من أجل الإنقاذ»، لافتاً الى انّ طرحه التقشفي متقدّم على ما يُعرض في مجلس الوزراء، «ولو كان الامر يعود إليّ وحدي لكنت قد اتخذت قرارات اقسى في ما يتعلق بتخفيف بعض المصاريف غير المبرَّرة».