لن تحمل النتائج التي ستفرزها صناديق الانتخابات في دول الانتشار أي مفاجآت عند فتحها مساء الاحد المقبل. فالماكينات الانتخابية الناشطة انتهت منذ عصر أمس من تقييم نتائجها واحتسبت ما نالته. ونسبة الـ 60 % من الناخبين الذين تعهّدوا الإدلاء بأصواتهم، تحتمل كثيراً من القراءات. وعليه، هل يمكن ان يُوجّه اليهم الشكر أم محاسبتهم لأنّهم لم يفوا بالوعد الذي قطعوه بالمشاركة، وهذه عينة منها.
سيسيل حبر كثير من اليوم وحتى الأحد المقبل في تقييم نتائج الانتخابات التي جرت في الدول الـ 58 التي فُتحت فيها صناديق الاقتراع للبنانيين على مرحلتين، سواء بالنسبة الى المهاجرين والمهجّرين، كما إلى المغتربين المنتشرين في معظم أصقاع الأرض. فما رافق العملية منذ بدايتها إلى الأمس القريب يحتمل كثيراً من التحليل، بحثاً عن مجموعة من الحقائق التي تعطي الصورة الأكثر صدقاً والأنقى عمقاً والأوضح، بما عبّرت عنه مجتمعات لبنانية تكونت في الخارج على مراحل عدة، قادت إليها هجرات فردية وعائلية وجماعية على مدى العقود الماضية باتجاه مختلف نواحي الأرض بطريقة من الطرق. فالجميع يدرك انّ بعضاً من هذه المجتمعات تكون طوعاً، بعدما قادتهم الرغبة في الهجرة للالتحاق بمن سبقهم من عائلاتهم او قسراً، انعكاساً للأزمات المعيشية وسلسلة الحروب والاجتياحات التي شهدها الوطن الصغير، والتي ادّت الى إبعادهم عن أرضهم.
وعليه، فإنّ اي مقاربة لما نضحت به نسبة المشاركة في العملية الانتخابية في بلاد الانتشار تؤدي تلقائياً الى مجموعة من الملاحظات التي عبّرت عنها المحطات التي قطعتها العملية الانتخابية، وتحديداً منذ بدء عمليات التسجيل في المنصات التي وضعتها وزارتا الخارجية والداخلية للراغبين المشاركة فيها حيث ينتشرون، والشروط التي وضعت وتبدّلت ما بين التسجيل نهاية العام الماضي، وصولاً الى توزيعهم على مراكز الاقتراع، وما رافقه من بلبلة انعكست مباشرة على نسبة الاقتراع في عدد من البلدان، وهو ما أظهرته وقائع الجمعة والأحد الماضيين.
فالجميع يدرك انّ ما بلغته نسبة التسجيل عند إبداء رغبة المنتشرين في المشاركة من رقم قياسي غير مسبوق، بعدما أُعلن عن تسجيل 244442 لبنانياً مغترباً لم تصمد كثيراً، وتراجع العدد الى 230466 بعد اول عملية غربلة أُسقطت منه أعداد الناخبين في الدول والمناطق التي لم يتوافر فيها الحدّ الادنى لإنشاء صندوق اقتراع حدّد عدد الناخبين فيه سلفاً بـ 200 ناخب وانتهى بالسماح لـ 225114 ناخباً، بعدما شُطب من اللوائح الذين تقدّموا بأكثر من طلب تسجيل، أو لم تتوافر فيهم شروط اقتراع الناخبين الذين تسجّلوا يدوياً ولا قيود لهم. ويُضاف الى كل هذه الأسباب، نقل موعد الانتخاب المعلن عنه عند إجراء التسجيل من 27 آذار الماضي الى منتصف ايار الجاري، وهو ما انعكس على نسبة المقترعين، بعد ان تبدّلت برامج كثير من المنتشرين ومنعتهم من ان يكونوا في بلاد الانتشار.
وإلى هذه الملاحظات البديهية التي لا تخضع لأي نقاش، لا بدّ من تسجيل عدد من الملاحظات، عند البحث في الاسباب التي ادّت الى هذه النسبة من المشاركة، والتي تفاوتت بين دول واخرى بين ما نسبته 85 % ونزولاً الى ما دون الـ 30 %. وهي فوارق لم تكن تُحتسب لو كان التزام الناخبين كاملاً، وهو ما يمكن الإشارة اليه بالآتي:
– من تسجّلوا على لوائح الناخبين في الخارج، لم يكونوا على سجلات القيد ولوائح الشطب الأساسية الخاصة بالناخبين غصباً عن إرادتهم، وليسوا ممن دمجوا بكثير من أسماء المتوفين، والذين تخلّوا بشكل من الأشكال عن حقهم في الانتخاب على مدى الدورات الانتخابية السابقة، التي أبقت هذه اللوائح متضخمة الى حدّ كبير. ومن المفترض ان يكونوا قد تسجّلوا على لوائح الراغبين في الانتخاب خارج الاراضي اللبنانية لممارسة هذا الحق بنسبة 95 % على الاقل، إن قال قائل انّ هناك من تمّ تسجيلهم بإرادة ماكينات حزبية وجمعيات مدنية، ساهمت وساعدت في تجييش بلاد الاغتراب لإنجاز هذه العملية كما جرت، من دون التثبت من كل مقتضياتها الإدارية والشخصية، فسقط حقهم من الغربلة الاولى لهذه اللوائح.
– لا بدّ من شطب قسم كبير من الناخبين في الخارج من لوائح الداخل. فنسبة كبيرة ممن جمعتهم هذه اللوائح كان من المفترض ان ينتخبوا في بلدهم واماكن سجل قيدهم، لو لم يضطروا الى الهجرة، وخصوصاً في السنوات الثلاث الاخيرة، التي أجبرت عشرات الآلاف منهم الى الهجرة القسرية، وهم يشكّلون أكبر نسبة من المنتخبين في الخارج قد تفوق الـ 60 الى 65 % ممن مارسوا هذا الحق يومي الجمعة والاحد الماضيين. ففئة الشبان كانت لافتة، لا يمكن إخفاءها على أي من المراقبين الذين دققوا في هذا الجانب الكبير مما عبّرت عنه نسبة المشاركة وخصوصاً في الدول التي استضافت عشرات الآلاف منهم من اجل فرص العمل، نتيجة فقدان وظائفهم في لبنان وتوقف العمل في قطاعات مهنية وخدماتية واسعة .
واستناداً الى ما تقدّم من الأسباب التي دفعت الى هذه الظاهرة التي ميّزت هذه الدورة الانتخابية، لا بدّ من الإشارة الى أسباب وظروف أخرى حالت دون مشاركة البعض في الاستحقاق الانتخابي. فالحملات الإعلامية التي تتلاعب بأجواء بعض المجموعات الطائفية والحزبية ساهمت في انخفاض نسبة المشاركة. فما شهده الشارع السنّي بعد عزوف زعيم تيار «المستقبل» الرئيس سعد الحريري ترشيحاً وانتخاباً، انعكس على كثيرين ممن لم يفوا بالوعد الذي قطعوه بعدم المشاركة في العملية الانتخابية. فقرار الحريري جاء متأخّراً بعد إقفال باب التسجيل في الخارج، ولم يعد هناك من مجال للبعض للتراجع عمّا تعهّدوا به. وهي ظاهرة لا يمكن التغاضي عنها عند احتساب نسبة المشاركة في بعض الدول العربية عموماً والخليجية منها خصوصاً، كما في بعض الدول الغربية، حيث كانت تنتشر إمبراطورية أعمال للحريري وعائلته وماكينته الانتخابية التي كانت تحصي اللبنانيين في آخر بقعة مسكونة من العالم.
وإلى هذه المعادلات المنطقية التي انتهت اليها انتخابات المنتشرين، لا بدّ من مزيد من الوقت للتدقيق في الاسباب التي ادّت الى هذه النسبة الضئيلة من المشاركة. فقد كانت ماكينات حزبية واخرى تابعة للقوى التغييرية تحلم بنسبة مشاركة تزيد على 90 %. وإن لم تعلن عن ذلك فلأسباب مختلفة لا مجال للتوسع فيها. فبعض القوى الحزبية وتلك التي سعت وما زالت تسعى لتكون على لائحة قوى المعارضة والتغيير، كانت تراهن على هذه المشاركة الكبيرة لقلب النتائج في الداخل. فبعض الذين تسجّلوا في الدوائر الانتخابية الحساسة كانوا يمثلون نسبة تغيير في النتائج المتوقعة في انتخابات الأحد المقبل. فقد كانت الأرقام واضحة عند القول إنّ الناخبين في دائرتي بيروت الأولى والثانية ودائرتي لبنان الشمالي الثانية والثالثة وجبل لبنان الرابعة والبقاع الثانية (زحلة ومحيطها) والجنوب، تشير بالتأثير الفعّال لتحديد مصير حاصلين او ثلاثة في البعض منها. كما بالنسبة الى احتمال إحداث خرق غير مسبوق في دوائر الجنوب المقفلة (الثانية والثالثة) على حق حصري للثنائي الشيعي كما في دائرة البقاع الاولى (بعلبك الهرمل).
وتأسيساً على ما تقدّم، لا بدّ من ان يعيد بعض الذين أغدقوا المغتربين بالتهاني والشكر على مشاركتهم، ان يعودوا الى سلسلة الملاحظات هذه، لإعادة النظر في مواقف شعبوية ستنتهي مفاعيلها مع إقفال صناديق الاقتراع مساء الأحد المقبل.