IMLebanon

قواميس وصواريخ وأبراج

 

الانتماء إلى العصر لا يشبه الذهاب إلى السينما. لا يكفي أن تشتري بطاقة لتحجز مقعدك. المسألة أكثر تعقيداً ويصعب فيها التحايل. لا خيار لديك غير الوقوف بجرأة أمام المرآة. وأن تتعرى من بعض أوهامك وأفكارك القديمة. وأن تضع قاموسك على الطاولة وتمتحن المفردات والمفاهيم التي كنت تعتقد أنها عصية على التبدل. لا بد من فتح الباب لحرب أهلية داخل أفكارك وتصوراتك. علاقتك بالوقت. وبمجتمعك. وبالآخر. وبالعالم. لن تذهب إلى المستقبل إذا حسمت أمرك أن الماضي أفضل منه. أنا لا أزعم أن المهمة سهلة. وأن النجاة من وطأة الماضي يسيرة. لكن العربي يقف الآن على المنعطف وعليه أن يتخذ قراره. والمسألة مطروحة بحدة. تنام في سرير أجدادك وتتغطى بقاموسهم أو تسهم في بناء عالم يليق بأحفادك.

غفونا قرناً بعد قرن على وسادة التشابه واعتبرنا الزمن مجرد حجارة تتراكم. وشاءت ظروف كثيرة ألا تكون منطقتنا مسرحاً للمخاضات الواعدة. لا شيء يشبه الثورة الفرنسية. ولا الثورة الصناعية. ولا أفكار عصر النهضة. لكن ذلك كان. الآن هاجمنا العصر واستدرجنا إلى الامتحان. تحسس الهاتف النائم في جيبك. إنه أعظم الرحالة. وأبرع الجواسيس. والمراسل الذي لا ينام. العالم في جيبك بالصوت والصورة. بالمعلومة والسؤال. وعليك أن تختار. تسرب السم إلى قاموسك ولا تبحث في أدراج جدك عن علاج.

لا خيار غير الاتصال بالعصر مهما استلزم من التعب والتمزق وإعادة التأهيل. لا تستطيع أن تكون صحافياً اليوم بالأسلوب الذي كنته قبل عشرة أعوام. ولا تستطيع أن تكون وزيراً اليوم كما كنت قبل عشرة أعوام. والأمر نفسه بالنسبة إلى الضابط والأستاذ الجامعي والمهندس والحاكم والحكومة.

كلفتنا القطيعة مع العصر دولاً ومدناً وبحراً من الخسائر البشرية والمالية. القطيعة مع الحقائق والوقائع ومفهوم الدولة والمؤسسات.

هذا ما تبادر إلى ذهني حين اتصل صديق ليبي معلقاً على ما جاء في حديث الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى «الشرق الأوسط». توقف عند اتصال العقيد معمر القذافي بالشيخ محمد معرباً عن رغبته في أن تكون طرابلس «دبي جديدة» وعاصمة اقتصادية لأفريقيا. قال إن بناء مدينة عصرية تتسع لأبناء جنسيات كثيرة ويتعايش فيها الناس تحت حكم القانون يحتاج إلى عقلية لم تكن موجودة في نظام العقيد، وإلى مؤسسات لم تكن قائمة في عهده. وأضاف الرجل الذي يعرف النظام والعقيد معاً: «وقعت بعض بلداننا في أيدي رجال ينتمون إلى عقلية الحرب العالمية الثانية، إن لم يكن قبلها. فرديون ولا يعرفون العالم وحربهم الحقيقية هي حرب الاحتفاظ بالسلطة. لم يستوقفهم المعنى العميق لانهيار الاتحاد السوفياتي وهو عدم اللحاق بالعصر، وعدم تحسين شروط حياة الناس بالقدر الكافي». وقال: «كان هذا النوع من الأنظمة يهتم بالأمن والاستخبارات، لا بالجامعات والتعليم. وكان يفضل شراء الصواريخ وتكديسها بدل الانهماك في البنية التحتية والاستثمار والأبراج. وكان يرى أن المواطن يستطيع توفير خبزه ودخله بالانضواء تحت عباءة النظام ولجانه الثورية».

لاحظ الصديق الليبي تزايداً في وعي الحكومات العربية لأهمية بناء العلاقات العربية – العربية على قاعدة المصالح المتبادلة التي مكّنت الأوروبيين من إبعاد شبح الحروب، وحولت القارة القديمة لاعباً بارزاً على الصعيد الدولي وفي السياسة والاقتصاد معاً. وتوقع أن تترك عملية الإصلاح والتحديث التي تشهدها السعودية في إطار «رؤية 2030» والتي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان آثاراً عميقة في العالمين العربي والإسلامي. ولفت إلى إجراءات جدية وصعبة تطبقها الحكومة المصرية لوضع الاقتصاد على طريق التعافي، والأمر نفسه بالنسبة إلى الأردن.

قال إنه لو تمكن القذافي من بناء دبي في طرابلس لما تعرضت ليبيا لما تعرضت له، والأمر نفسه بالنسبة إلى القذافي. ولو تمكن صدام حسين من بناء ما يشبه دبي في بغداد لما تعرض العراق لما تعرض له، والأمر نفسه بالنسبة إلى صدام حسين. لكنك لا تستطيع بناء مدينة حديثة بقاموس قديم تخطاه الوقت. كان يمكن أن تكون طرابلس الآن مدينة تعج بالسياح والمستثمرين ولديها كل الإمكانات اللازمة. وهذا يصدق بالتأكيد على بغداد. بدّد التمسك بالقاموس القديم… قاموس الخوف والتسلط، ثروات البلاد وأعمار العباد.

واضح أن على منطقتنا أن تخوض معركتين في وقت واحد؛ معركة الاستقرار ومعركة الازدهار. معركة الاستقرار لإعادة قدر من التوازن إلى الإقليم يسمح بالمحافظة على دور العرب ومصالحهم، ويمكن دولهم من التقاط الأنفاس وخوض معركة الإصلاح والتحديث. ومعركة الازدهار التي لا بدّ من أن تنطلق من قاموس جديد في التعامل مع العالم والعصر وحاجات الناس وتطلعاتهم. والنجاح في المعركتين مشروط بالخروج من دائرة المخاوف القديمة على أحجام الأدوار إلى دائرة الشراكات الاستراتيجية وتبادل المنافع والخبرات.

ليس سراً أننا نحتاج إلى الخروج من القواميس القديمة في العلاقات داخل الخرائط وبينها. نحتاج إلى تعليم يوقظ قدرات الطالب العربي ويمكنه من الانتماء إلى عالم التحول والتنافس والابتكار. وإلى جهد تنموي فعلي يغير شروط حياة الناس نحو الأفضل، ويحاصر أمواج اليأس التي تستقطب الشباب وتدفعهم في مسارات انتحارية أو تحرضهم على الاستقالة من الوطن، سواء أقاموا فيه أم ألقوا بأنفسهم خارجه. وعلينا أن نتذكر أن الدول التي حدّثت قاموسها سبقت تلك التي تعلّقت بالماضي. وأن الدول التي راكمت إنجازات تنموية هي اليوم أقوى من تلك التي راكمت الصواريخ. وأن الدول التي شيّدت الأبراج أقوى اليوم من الدول التي أمضت العمر في بناء الخنادق.