IMLebanon

قاموس الإعلام في اليوم «البرتقالي»: «الستربتيز» أولاً

منطقي جداً أن تحظى التظاهرات العونية المطالبة بوصول النائب ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية بتغطية إعلامية واسعة. ولكن، ما ليس منطقياً، ويتكرر، ويتواتر حتى يصير «صيغة» ثابتة، هو عدم رقابة إعلام على نفسه، وعلى قاموسه الذي يستخدمه في «الأحداث الكبيرة». هذا القاموس الذي ينهل من السياسيين، ومن السائد، بلا أي تدقيق أو مراجعة

البداية من «الزحف». «الزحف إلى بعبدا». أول مرة استُخدم فيها تعبير «الزحف إلى»، على الأرجح كان إلى روما في بدايات عشرينيات القرن الماضي. فلنقل لعلها أبرز المحطات التاريخية، التي سارت فيها تظاهرات شعبيّة «مؤثرة» في المشهد وفي التاريخ للوصول إلى السلطة بلا مواربة.

كان ذلك عندما حشد الديكتاتور الإيطالي الشهير بنيتو موسوليني عشرات الآلاف من مناصريه، وساروا مرتدين «القمصان السود» إلى أبواب العاصمة الإيطالية، مطالبين بحكم الفاشية. للأمانة، الترجمة العربية للمصطلح الإيطالي المستخدم للتعبير عن التظاهرة ليس دقيقاً تماماً، بحيث يمكن القول إن «مارشيا سو روما» قد تعني حرفياً، المسير إلى روما، غير أن العارف بالتاريخ الإيطالي يعرف أن القصد كان «الزحف» بمعناه «الكفاحي»، وهذا ما درج في الترجمات العربية، للاستدلال على الحدث التاريخي فعلاً. بيد أن ما درج فعلاً هو فعل «الزحف» نفسه، واستخدام المصطلح إعلامياً، حتى صار راسخاً، من دون أي إشارة إلى مرجعيته التاريخية المعاصرة على الأقل.

ما الذي يعنيه «الميثاق»، سوى الصيغة الشيحاوية، التي أسست لكيانٍ طائفي؟

«الزحف» فعل فاشيّ في الأساس. وإن كان استخدامه من قبل مستخدميه قد يكون «أبسط» من ذلك بكثير، إلا أن الإعلام الذي يقذف المصطلحات ويعممها كحقائق، أو من باب «الستربتيز»، مسؤول منهجياً عن التوضيح وعن الأمانة. هكذا، استخدم أمس بكثافة، في الإعلام المحلي اللبناني، مصطلح «الزحف إلى بعبدا» في أكثر من مكان. وهو يأتي في سياق استخدام عربي طويل للعبارة من دون تدقيق بالخلفية أو في الدلالة التاريخية. وربما، يجب التوضيح، أن هذا الاستخدام ليس «عونياً» حصراً، بل هو استخدام «إعلاموي» عربي دارج. وبطبيعة الحال، يضمر هذا الاستخدام الرتيب من الخفة أكثر مما يضمر من المعنى. وبلا شك، يجب التنويه بالإضافات اللبنانية «الفذة» للتعبير، كاستخراج اشتقاقات لغوية منه. فيصير مرتدو «القمصان البرتقالية»، هم «الزاحفون إلى بعبدا»، وتصير بعبدا نفسها هي الجمهورية!

وعلى سيرة الجمهورية، كثر الحديث أمس عن «الميثاق» وعن «الميثاقية». حديث مجرد بلا أي شروح أو أبعاد. والحال أن الميثاق الأول، الأصلي، هو ميثاق «شفهي» بين الرئيس الأول للجمهورية اللبنانية بشارة الخوري، ورئيس حكومته رياض الصلح، وللمناسبة، هو «ميثاق» تعرض لنقدٍ هائل من المؤرخين الأكاديميين الجديين، لشدة ضحالته، ولاختزاله الشعب اللبناني في طوائف، ما أسهم في ابتذال الجمهورية، ومنع ولادة أي صيغة «وطنية»، إذ تجري العودة إلى مفردة «ميثاق» كمرجعية تأسيسية للجمهورية اليوم. يذهب مؤرخون، كمسعود ضاهر، في كتابه «لبنان: الاستقلال، الصيغة، والميثاق» إلى نقد صيغة هذا الميثاق بقسوة، إذ إنه «لم يختزل الشعب اللبناني في طوائف وحسب، بل اختزل بشارة الخوري المسيحيين في شخصه، وكذلك فعل رياض الصلح مع المسلمين». هذا «الميثاق السحري» الذي يتناول إعلامياً من دون أي نقد، وعلى شفاه السياسيين، والمتظاهرين، و«الزاحفين» ليس سوى نتاج لصيغة طائفية تأسس عليها الكيان اللبناني، يحلو لبعض أنصار المفكر الليبرالي ميشال شيحا تسميتها «الميثاق الوطني»، الذي يقوم على جمع الأقليات، لا على بناء وطن. وإن كان شيحا قد اجتهد لمنح هذا الميثاق بعداً فلسفياً وقانونياً، من دون أن يوفق في ذلك، فإن الإعلام اللبناني لا يجتهد بشيء. على «أم تي في» اجتهدت المذيعة في التوجه إلى أحد المراهقين بسؤال عن الميثاق، بنبرةٍ لا تخلو من التكبر، حتى أنها كادت أن تضع المايكروفون في فمه، وهو لا يجد إجابة واضحة. كل ما استطاع المراهق المحاصر بهجوم المراسلة هو ترداد بضع جمل عن «استعادة حقوق المسيحيين». ولكن المراهق البرتقالي ليس ملوماً، فهو متحمس والتلفزيون ليس مهنته. كذلك، على «أن بي أن» كان أحد المحللين الصباحيين الشهيرين يردد كليشيهات «عميقة» عن ضرورة «حماية الطائف» وحماية «الميثاقية»، إضافة إلى سيل من المصطلحات الأخرى التي يستسهل المستسهلون قذفها في الهواء، كما لو أنهم يعرفون أن أحداً لن يسألهم، ما الذي يعنيه هذا؟ فعلاً، ما الذي يعنيه «الميثاق»، سوى الصيغة الشيحاوية، التي أسست لكيانٍ طائفي؟ يجب أن نسأل مراسلة «أم تي في» العارفة والمتحمسة لتطبيق «الميثاق»!

يساير الإعلام السياسيين في «التضليل». وإن افترضنا حسن النية، يمكن القول إنه يتقاعس عن تصحيح ما يرمون به من مصطلحات. الوزير جبران باسيل، يحلم أن «يقف ميشال عون على شرفة قصر بعبدا ويهتف يا شعب لبنان العظيم». أسئلة جدّية هنا، وإن كانت ترنو شكلياً إلى «المزاح» في ظاهرها، ولكنها أسئلة يرددها اللبنانيون، ولا يجدون أجوبة عليها. هل الرئيس، رئيس جميع اللبنانيين؟ وإن كان رئيس كل اللبنانيين، فلماذا يرد في مقدمة نشرة أخبار «أو تي في» أو في برامجها، ويشاركها في هذا «أم تي في»، حديث وافر عن الرئاسة، وعن «حقوق المسيحيين»؟ الخلاصة أن الإعلام يتداول المصطلح كما تمليه السلطة السياسية من دون أي تنقيح أو تشذيب، أو بحث في صوابيته أو الآثار الجانبية المترتبة على استخدامه. إن إعادة بحث الإعلام في المصطلحات التي تعمّمها الطبقة السياسية، عموماً، وفي لبنان خصوصاً، هو مدخل رئيسي لفهم وظيفة الإعلام ودوره. ليست وظيفة الإعلام أن «ينسخ» عن الطبقة السياسية أدبياتها، أو أن تتساوق أفكاره معها. من جملة «العبارات النيّرة» التي وردت في اليوم البرتقالي الطويل أمس، على ألسن سياسيين، ومحاورين تلفزيونيين، عبارة مستقاة من أنطولوجيا المسرح الرحباني غالباً: «الشريك بالوطن». بربكم، هل هذا إعلام؟