يشهد لبنان في الفترة الأخيرة عمليّةَ تسليح مبرمَجة لدى المواطنين في إطار تبرير الدّفاع عن النفس، ويعتبر البعض أنّ هذا الأمرَ مرتبطٌ بمشاهد الدم والعنف والمناخ الإجرامي وحال الفوضى في المحيط العربي مع ظهور المجموعات المتطرِّفة والأصولية، على رُغم أنّ هذا الأمر ليس غريباً على اللبنانيين الذين رسخت في أذهانهم منذ زمن المشاهدُ الإرهابية بعد أن مرّوا بأحلك الظروف وخاضوا ما يكفي من الحروب.
قد تتعدّد الأسباب التي تدفع بالمرء إلى إزهاق روح الآخر ولكنّ النتيجة واحدة: الموت. ارتفعت جرائم القتل في لبنان في السنتين الأخيرتين، وكان آخرها قتل الشاب إيف نوفل على أثر وقوع إشكال بين مجموعة من الشبان بدأ في ملهى ليلي وتطوّر لاحقاً على طريق كفرذبيان إلى تبادلٍ لإطلاق النار، وأيضاً المواطنة إيليان الصفطلي التي توفيت إثر تعرّضها لإطلاق نار عن طريق الخطأ أمام أحد الملاهي الليلية في الكسليك بعدما قام أحد الشبان بإطلاق النار بسبب منعه من دخول الملهى.
ويقول إيلي الصفطلي والد إيليان لـ«الجمهورية» إنّ «الدّمعة بقلبي وعقلي وروحي ولا أستطيع الكلام عن وفاة ابنتي، لأنني ما زلتُ لا أصدّق أنّها غادرتنا». كلماتٌ تنمّ عن ألمٍ وضررٍ معنوي يسبّبه السلاح الذي لا مبرّر لاستخدامه بأيّ شكلٍ من الأشكال بوجه مدنيين أبرياء أزهقت أرواحهم بغضّ النظر عن الأسباب التي تختلف بين حال وأخرى.
لا دولة في العالم ولا دين ولا هوية تشرّع القتل لأنّه عملٌ أقرب إلى الواقع البربري ولا يليق بالجانب الإنساني. ولأنّ الإنسان بحسب الفيلسوف الإيطالي ميكافيلي، شريرٌ بطبعه ورغبته بالخير مصطنَعة يفتعلها لتحقيق غرض نفعي بحت، فإنّه لا بدّ من التركيز على لزوم التحكّم بالفلتان الأمني والابتعاد عن الحماية السياسية التي قد يحظى بها الجاني وتنفيذ أشدّ العقوبات به.
عازوري
يُقسم الرادع الأساس لدى الإنسان إلى قسمين: رادع داخلي وآخر خارجي. فالرادع الداخلي يتعلّق «بالمثل الأعلى» لدى الراشد الذي يعود إلى ما تلقاه في صغره من مجموعة قِيَم وعادات وتقاليد تُمكنه من التمييز بين الصحّ والخطأ وتحريمه من إزهاق روح الإنسان، باستثناء جرائم الشرف التي ما زال بعض العائلات يعمل بها. أمّا الرادع الخارجي فهو العقاب الذي تفرضه السلطات الرسمية على كلّ مَن يُخالف القانون الذي يُحرّم القتل.
وفي هذا الإطار، يوضح الطبيب والمحلّل النفسي الدكتور شوقي عازوري لـ«الجمهورية» أنّ «الإنسان يرتكب الجريمة لأنّ في داخله «الأنا الأعلى» التي تطغى على التربية التي تلقاها في طفولته وما كوّنته له من شخصيّة وهو في الرابعة من عمره، لتلازمه طيلة حياته.
فثقافة الإنسان تتكوّن في صغره، وإرشاده للتمييز بين الصحّ والخطأ يبدأ في تلك المرحلة، ليُشكل عنده ما يُسمى بالرّدع الداخلي زارعاً الخوف ومولِّدا الإحساس بالذنب ويُطلَق عليه باللغة الفرنسية Conscience de culpabilite يوقف المرء عن ارتكاب الجريمة. وهذا الأمر فسّرته العبارة الفرنسية «et l’oeil etait dans la tombe et regardait Kayan» التي مفادها أنّه حتى ولو كان الأخ في القبر يمتنع الإنسان عن إرتكاب الجرم خوفاً من أن تكون عينُ أخيه عليه».
ويقول إنّ «ما نشهده اليوم من فلتان خارجي يُفسّر ما هناك من فلتان داخلي، أيْ أنّ المراقبة الداخلية التي تمنع الولد وبعده الراشد من إرتكاب الجرائم تؤكد أنّه ليس عاملاً كافياً للردع عن أعمال العنف والقتل بل إنّه لا بدّ من وجود رادع خارجي يتمثّل بالعقاب الذي تفرضه السلطات، ما يجعل الطريق صعباً أمام الجرائم».
ويرى أنّ «ظاهرة القتل لا تعود إلى تأثر الشباب اللبناني بما يحصل في محيطنا العربي من سفك الدماء والتطرّف، لأنّ اللبناني اعتاد على مشاهد الدّم وحَمْل السلاح حتى قبل حرب يوغوسلافيا حين استخدموا عبارة «لبننة»، فالعالم في حال خراب وما لا يمكن حلّه بالحوار وثقافة الكلام لا يمكن أن يُعالَج، هذا إضافة إلى أنّ البنية التحتية للدولة أيْ التركيبة الإجتماعية في حال تفكّك بدءاً من الرأس المتمثل برئيس الجمهورية مروراً بالمؤسسات الدستورية والإدارية كلّها، ما يعني أنّ هناك غياباً للعقاب للإحتماء ببعض الجهات السياسية الخارجة عن الإطار القانوني، ما يؤدّي إلى إختلال التوازن بين العاملَين الداخلي والخارجي».
ويعتبر أنّ «مقتل الشاب إيف نوفل والشابة إيليان الصفطلي لم يدفع إلى إستنكار واسع في لبنان على غرار الإستنكارات الأخرى ومنها على سبيل المثال مقتل صحافيي وكاريكاتوريي صحيفة «شارلي إيبدو» لأنّ القتل في لبنان أصبح عادة ما يدلّ على وجود خراب المجتمع حيث نعيش حالاً من الجنون الذي لا رادع له، فلا شيء يبرّر على سبيل المثال قتل الشاب السنّي العامَ الماضي بسبب زواجه من درزية، أم حال آخر صوّر ببرودة أعصاب زوجته تنتحر وترمي بنفسها من على الشرفة، أما بالنسبة إلى الحلّ فيكون بفرض عقوبات قاسية لدى المراجع القضائية مثل زجّ الجاني في السجن مدى الحياة مستثنياً عقوبة الإعدام».
عطية
تقول المحامية صونيا عطية لـ«الجمهورية» إنّ «عقوبة الإعدام لا تتناسب مع الجريمة فهو يصحّ في شأن كلّ عقوبة، فالمجرم في أكثر الاحيان تقوده الى الجريمة عوامل خارجة عن إرادته منها ظروف الجريمة، عامل الوراثة، البيئة التي نشأ فيها، المجتمع الذي حرمه من حقه في الثقافة والعلم ومن حقه في حياة كريمة، وغير ذلك»، مشيرةً إلى أنّه «إذا أخذنا كلّ هذه الامور في الاعتبار، نصل الى نتيجة أنّ المجرم لا يساهم في ارتكاب الجريمة إلّا مساهمة ضئيلة لا يستحق عليها عقاباً بل وجب وضعه في إصلاحية، ما يعني وجوب إلغاء العقوبات المنصوص عليها في القانون والعمل على دراسة السبل الآيلة الى إصلاح المجرمين».
وهل إنّ سلوك هذا الطريق يقي المجتمع شرّ المجرمين؟ تفسّر عطية أنّ «نصّ المشترع على العقوبات يُقصد منه بصورة عامة ردع المجرمين عن ارتكاب الجرائم، أما بالنسبة إلى عقوبة الإعدام فقد أثارت جدلاً بين فئتين: فئة مطالبة بإلغائها بحجة أنه لا يجوز للدولة ازهاق روح انسان أيّاً كان السبب الداعي الى ذلك لأنّ الحياة هبة من الخالق ولا يحقّ لمخلوق إنهاؤها، وفئة قائلة بإبقائها وهذه تسند رأيها الى منطلقات عمليّة، إذ هي تعتبر أنّ العقوبة ليست جزاءً للفاعل واقتصاصاً منه فقط، بل تشكل رادعاً للغير وأنّ التضحية بحياة فرد يبرِّرها الحفاظ على حياة الآخرين»،
وتضيف: «هذه الاشكالية تقودنا الى التساؤل عما إذا كانت عقوبة الإعدام رادعة تحول دون ارتكاب جرائم القتل أم لا، يقول المحامي الشهير السير مكسويل إنّه من خبرته الطويلة كمحامٍ رأى عدداً كبيراً من المجرمين واقتنع اقتناعاً راسخاً بأنّ المجرمين يخافون عقوبة الإعدام أكثر من الاشغال الشاقة المؤبّدة».
وتؤكد أنّ «أحقية الإعدام تأثيره في الاشخاص الذين يخشونه الامر الذي يجعله في مقدمة العوامل التي تحول دون ارتكاب الجرائم فالناس يخشون الموت كونه يثير فيهم رهبة، في حين أنّ العقوبة المؤبَّدة لا رهبة لها في النفوس ولا سيما بالنسبة الى فرص العفو المرتَقَبة»، مشيرة إلى أنّه «في لبنان يتبيّن من الاحصاءات الصادرة عن الاجهزة الأمنية حول جرائم القتل ومحاولات القتل من سنة 1992 وحتى سنة 1999 أنه بعد صدور القانون رقم 302/94 تاريخ 24/3/1994 الذي صدر كردّة فعل على سنوات العنف التي مرّ فيها لبنان والذي منع منح الاسباب المخففة، أنّ أثره كان ايجابياً وفاعلاً في الحدّ من جرائم ومحاولات القتل، ما يؤيّد وجهة نظر القائلين بالإبقاء على عقوبة الإعدام كونها تشكل رادعاً للمجرمين ولأنّ حماية المجتمع والحفاظ على حياة أفراده فوق كلّ اعتبار».
وتشير إلى أنّ «عدداً لا يُستهان به من الدول التي ألغت عقوبة الإعدام كان يُعيد العمل بها على أثر اضطرابات تحصل، وهذا ما حصل في لبنان ايضاً إثر أحداث سنة 1958، وانتشار الفوضى، بحيث صدر قانون 16/2/1959 الذي منع منحَ القاتل اسباب التخفيف».
وتوضخ أنّ «القوانين تعبّر عن واقع ومجتمع معيّن في زمان ومكان معيَنَين، لذا يوجب الأخذ في الاعتبار واقع المجتمع اللبناني على كلّ الصعد من دون أن نعمد الى الاقتداء بمجتمعات أخرى ونتقيّد بقوانينها تقليداً لا اقتناعاً. فالأخذ بالثأر في لبنان يوقع عشرات القتلى، والإعدام يمنع الانتقام الفردي وما يتبعه من سلسلة جرائم قتل لا حصر لها وحق الانسان في الحياة يجب أن لا يتقدّم على حق الهيئة الاجتماعية في الحياة (العلامة الفرنسي غارو) والتضحية بحياة فرد يبرِّرها الحفاظ على حياة الآخرين».
وتقول إنّ «عقوبة الإعدام تردع المجرمين عن ارتكاب جرائم القتل، فبشاعة عقوبة الإعدام ليست أبشع من الجرائم التي يرتكبها المجرمون، وإذا كان المطالبون بإبدال عقوبة الإعدام بالاشغال الشاقة المؤبدة يتوخون الرأفة بالمجرم فإنّ بقاءه في السجن مدى الحياة أشدّ قساوة وقد يؤدي به الى الخمول او الى الجنون ولن يكون له أو للمجتمع فائدة ترجى من وجوده فيه، كذلك، إنّ تأثير عقوبة الإعدام على الاشخاص الذين يخشونه يجعله في مقدمة العوامل التي تحول دون ارتكاب الجرائم وحماية حقوق الانسان وحقه في الحياة لا يمنح المجرم حق وضع حدّ لحياة الآخرين»، مؤكدة أنّ «في المقابل عند النطق بحكم الإعدام، يجب أن يكون لهذه العقوبة أدلّة إدانة واضحة وأن لا تطبق إلّا إذا كان احتمال ظهور البراءة يكاد يكون مستبعَداً».
وتختم قائلة: «إنّ حكم الإعدام يصدر بالدرجة الاولى عن محكمة الجنايات ويخضع لرقابة محكمة التمييز، وبعدها يأتي دور لجنة العفو التي تعطي رأيها في العقوبة وترفع الأمر الى رئيس الجمهورية. هنا يجدر برئيس الدولة أن يجعل من سلطته في إصدار العفو الخاص وسيلة لتفادي تنفيذ الإعدام في غير الحالات التي تقتضيها مصلحة المجتمع».