منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون، و»القوات اللبنانية» تتلقّى الصدمات. فقد تبيَّن لها أنّ «المكافأة» المُنتظرة من «صفقة معراب» بقيت محدودة ومحدَّدة. وفي المرحلة المقبلة، لن يكون الوضع أفضل. على العكس، الحصار سيكون خانقاً. ولذلك، تستمرّ في معراب مراجعة الحساب: هل أخطأ الدكتور سمير جعجع بانخراطه في تلك الصفقة أم لا؟ وإذا كان قد أخطأ، فهل هناك مجال للتَخلُّص من تداعيات هذا الخطأ وإصلاحه؟
عندما أقدمت «القوات» على «اتفاق معراب»، كان في تفكيرها أنها ستتمكن من إحداث انقلاب. ستحوِّل حال الحصار الذي وُضِعت فيه إلى حال انتصار. فقد كان عون يبحث عن تغطية مسيحية تكمل تغطية «حزب الله» والحريري ليصل إلى بعبدا. وأمّا جعجع فكان يهرب من البديل الوحيد من عون، أي النائب السابق سليمان فرنجية.
القريبون من «القوات» يقولون: هناك مبرّرات واقعيّة دفعت جعجع إلى أن يعقد الصفقة مع عون، ولا يجوز لأيّ كان أن يتجاوزها عندما يقرأ تلك المرحلة، وهي:
1 – في المنطلقات السياسية، تبقى الهوَّة بين جعجع وعون أضيق من تلك القائمة بين جعجع وفرنجية. وهذا ما عبَّر عنه رئيس «القوات» آنذاك بتعبير «فرنجية سوري أصلي وعون سوري تقليد». ففي تقدير جعجع أنّ عون في موقع رئاسة الجمهورية سيكون أشدّ حرصاً على إبقاء لبنان في وضعية التوازن بين المحاور الإقليمية، ولن يكون البلد بين أيدي فريق 8 آذار بالكامل. وأمّا فرنجية فسيقود لبنان سريعاً إلى أحضان الرئيس بشّار الأسد.
2 – في العلاقة الشخصية، على رغم الحروب المدمِّرة التي خاضها جعجع مع عون، فإنهما التقيا في المعاناة خلال المرحلة السورية. وليست هناك صورة موجِعة، شخصياً، بينهما كتلك التي كانت قائمة بين جعجع وفرنجية على خلفية حادثة إهدن.
3 – ساد اعتقاد في معراب أنّ «القوات»، إذا سَلَّفت عون دعماً في موقع الرئاسة، فإنه سيحتفظ لها بامتياز الفريق المسيحي المدلّل طوال العهد، فتستفيد من ذلك لتوسيع شعبيتها المسيحية وموقعها. وفي عبارة أخرى، «ستأكل» من البيئات المسيحية الأخرى كلها، بما فيها البيئة المسيحية المتردّدة أو المحايدة.
4 – في تفكير «القوات» أنّ التحالف مع «التيار الوطني الحرّ» سيؤهّل جعجع أن يحسِّن علاقته مع الوسط الشيعي، ولاسيما منه «حزب الله»، فيرفع «الفيتو» الدائم عن «القوات».
5 – لا يمكن لفرنجية أن يوفّر حجم التغطية المسيحية الذي يؤمّنه عون و«التيار». ولن يقتنع «الآخرون» بأنّ تحالف جعجع – فرنجية هو الشريك المسيحي في السلطة. ولذلك، من مصلحة «القوات» أن تتوافق مع «التيار» الذي يتمتع باتّساع الشعبية والتغطية المسيحية وأن تتقاسم معه تمثيل الطائفة في السلطة.
6 – واقعياً، لم يكن «حزب الله» سيختار فرنجيّة في تلك المرحلة لأنّ ذلك سيؤدي إلى ضرب تحالفه مع «التيار». وهذا أمر يعتبره «الحزب» خطاً أحمر.
7 – والأهم، أنّ جعجع كان يعتقد أنّ مدة السنوات الست من العهد ستتيح له أن يهندس معركته للرئاسة المقبلة بهدوء، ومن دون أعداء. وعندما تحين الساعة، سيكون مبرراً أن يحظى بدعم «التيار» كما حظي عون في العام 2016 بدعم «القوات»، أي تبرير المداورة في الرئاسة بين الزعامتين المسيحيتين الأقوى.
وفي المحصّلة، إنّ الفلسفة التي بَنى عليها جعجع «تفاهم معراب» تقوم على التمثّل بالثنائية الشيعية التي تحتكر تمثيل الطائفة. ولذلك، سارعَ إلى الإعلان أنّ «التيار» و«القوات» يمثّلان الغالبية الساحقة من المسيحيين وأنّ لهما الحقّ في تمثيل الطائفة.
عندما يُقال للمعنيين في «القوات» إنكم ذهبتم إلى صفقةٍ تسلِّم البلد للفريق الحليف لـ«حزب الله» والأسد وإيران، يقولون: «لقد كان الحريري هو السبّاق إلى الخروج من التحالف معنا ليعقد اتفاقاً منفرداً، وبعيداً من الأضواء، مع فرنجية. آنذاك، لم يبقَ لنا سوى أحد خيارين: إمّا أن نرضى بعزلنا وإمّا أن نعقد الصفقة مع عون لنبقى في المعادلة!». ويضيفون: «من السهل انتقادنا اليوم. ولكن، لم تكن أمامنا خيارات أفضل. كنّا مضطرّين إلى الحسم بين خيارات كلها غير مثالية. ثم حاولنا أن نعمل، من داخل التفاهم والتسوية السياسية على تحسين مواقعنا. ففي السياسة لا مجال إلّا للواقعية، ولا شيء مثالياً.
ولكن، على رغم ذلك، ثمة انطباع لدى «القوات» بأنها خُدِعت وأنها تتعرض لعملية تهميش مُركّزة. ولذلك، قررت أن تحمي نفسها مجدداً وتمنع حصارها ومحاولات عزلها. ولكن، هذه المرة، باعتماد خيار معاكس هربت منه قبل 3 سنوات، أي التحالف مع فرنجيّة.
لقد تبيَّن أنّ الثمار التي قطفتها «القوات» هي تلك التي فرضتها التسوية على عون في اللحظة الأولى، لا أكثر. وبعد ذلك، تبيّن أن لا مجال لأي مسيحي مدلَّل لدى العهد إلّا الوزير جبران باسيل. وأركان الصفقة التي كانت «القوات» سبباً في إنجاحها عام 2016 (عون، الحريري والثنائي الشيعي) باتوا في غنى عن الدور «القواتي».
وفي معراب، يتعايش اليوم الشعور بالندم مع الرغبة في التبرير. وهناك تساؤلات جديّة عما ستحمله المرحلة المقبلة، فالرئيس ميشال عون «سحب يده» من خلاف باسيل – جعجع، فيما الحريري مهتم بتثبيت موقعه في الدرجة الأولى.
وليس وارداً أن يشكّل جعجع مع جنبلاط وفرنجيّة والجميّل جبهة اعتراض فاعلة. كذلك يبدو متعذراً إنعاش 14 آذار. فالأطراف المشاركة في السلطة سترضى بترتيب أوضاعها، كلّ على انفراد، وتنسى الآخرين. وتعيينات المجلس الستوري نموذج واضح، وهي ستنسحب على كل محطات التقاسم في المرحلة المقبلة.
اليوم، يسأل البعض: هل يراهن جعجع على فرنجيّة لمواجهة باسيل في محطة الانتخابات المقبلة، إذا تعذّر عليه أن يكون مرشحاً قويّاً؟ وهل سيكون هذا الرهان أفضل له من الرهان على عون؟ وما هي احتمالات تعويم «تفاهم معراب» في اللحظات الأخيرة، إذا تبيّن مجدداً أنه الخيار الأفضل أو الأقل ضرراً؟
الجدل لم يتوقف حول سؤال: هل أخطأ جعجع في «صفقة معراب» أم لا؟ وهل هو مقبل على تصحيح الخطأ أم تعويمه؟ لكنّ المشكلة الأساسية ليست هنا تحديداً. إنه في النهج الذي اتّبَعته قوى 14 آذار منذ اليوم الأول، أي نهج الدفاع عن المصالح الخاصة، وبشكل إفرادي.
هنا يبدو جنبلاط والحريري في الطليعة. كما أنّ جعجع نفسه كان مرتاحاً إلى تقاسم الحصة المسيحية مع باسيل عندما كان اتفاقهما على قيد الحياة، ولكنه بدأ يصرخ ضد المحاصصة ويطالب بالشراكة المسيحية عندما وقع الخلاف.
إنها لعبة مصالح بامتياز. والمثير فيها هو ضياع اللاعبين، إذ لا يعرفون تحديداً أين تكمن مصالحهم الحقيقية، وأين أخطأوا وأين لم يخطئوا، وهل هم في طريق الخطأ مجدداً أم لا؟