IMLebanon

هل وقع غصن في فخ «نيسان» ؟

لا

عندما توقفت الطائرة التي تقل كارلوس غصن فوق مدرج مطار «هايندا» الياباني، فوجئ بمصوري التلفزيون المحلي يتدافعون قرب سلم الطائرة. وما كاد يطل برأسه حتى انهارت عليه أضواء الكاميرات، خصوصاً أثناء تقدّم الشرطة لإبلاغه أنه موقوف بموجب مذكرة جلب!

 

حدث ذلك يوم 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما نقلت سيارة الشرطة رئيس مجلس إدارة شركة «نيسان» كارلوس غصن الى سجن انفرادي أعدّ خصيصاً لإهانة السجناء وتحطيم معنوياتهم. ويبدو أن الوصف الدقيق، الذي نشرته إحدى الصحف عن مكونات الزنزانة، قد أزعج المدعي العام. والدليل أنه سمح لسفير لبنان في طوكيو نضال يحيى بزيارة غصن، وتأمين فراش له يقيه لسعات البرد ومرارة العزلة. إضافة الى حرمان غصن من تمارين الصباح بسبب ضيق حجم الزنزانة، والاكتفاء بطعام لا يزيد على ثلاث وجبات من الرز في اليوم، وقد خسر خلال شهرين عشرة كيلوغرام من وزنه. ويقول معاونوه إنه كان يطبق برنامجاً مكثفاً أثناء وجوده في طوكيو يقتضي منه العمل يومياً إثنتي عشرة ساعة من دون توقف. ويبدأ هذا البرنامج باجتماع مبكر يحضره أعضاء مجلس الإدارة السبعة، وينتهي بزيارة المصنع الذي ينفذ تصميم آخر سيارة. وكان حريصاً هذه السنة على عرض أول سيارة لـ «نيسان» تسير على الكهرباء. واختار يوم التاسع من آذار (مارس) لتقديمها الى صالونات العرض. كل هذا تيمناً بيوم عيد ميلاده المصادف التاسع من آذار.

 

ويعتقد أصدقاء غصن بأنه متأثر بأحداث شهر آذار الذي يعتبره الرومان مرحلة مفصلية من مراحل تاريخهم بسبب اغتيال يوليوس قيصر في منتصف هذا الشهر. كما تأثر أيضاً بالكتب المفضلة التي يقرأها والأفلام السينمائية التي يستمتع بمشاهدتها. وبين الكتب التي يكرر قراءتها كتاب: أخطاء الإنسان الستة للخطيب الروماني ماركوس توليوس شيشرون، وبين الأفلام التي يسرّه مشاهدتها فيلم سبارتاكوس الذي قاد «ثورة العبيد» على روما.

 

 

بعد مضي خمسين يوماً على احتجازه، استوضحت الحكومة الفرنسية التي يحمل كارلوس غصن هويتها، عن المبررات القانونية التي تجيز هذا التعسف. وادعت طوكيو في ردها أنها تطبق قوانينها التي تجيز للمدعي العام إتهام أي شخص… وإن على هذا الشخص إثبات براءته. بخلاف القانون المعمول به في كل دول العالم الذي يعتبر كل إنسان بريئاً، الى حين ينجح المدعي العام في إثبات وقائع الإدانة.

 

عقب مرور أسبوع على توقيف غصن، اجتمع أعضاء مجلس إدارة التحالف المكوّن من «رينو» و»نيسان» و»ميتسوبيشي» في امستردام للبحث في موضوع تعديل الاتفاقات السابقة. وفوجئ وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير بأن جدول الأعمال يتضمن مادة تدعو الى الإسراع في إعلان عزل غصن، واختيار خلف له.

 

وانبرى الوزير الفرنسي الى إعلان معارضته تعيين بديل يحلّ محل غصن. وحجته أن القرار الملزم للشركات الثلاث ينصّ على تثبيت المدير العام لـ «رينو» تييري بولوري، مديراً تنفيذياً بالنيابة.

 

ولقد أثارت هذه الواقعة سلسلة شكوك وتساؤلات عن الدوافع الكامنة وراء عملية الإسراع في تغيير قائد التحالف، علماً أن غصن الموقوف ما زال يشغل منصب رئيس مجلس الإدارة للشركات الثلاث… وإن الحكم بإدانته لم يصدر بعد!

 

أعضاء فريق الهندسة في شركة «نيسان» سرّبوا معلومات الى الصحف المحلية، تؤكد البحث عن مخالفات ارتكبها غصن، بغرض ضمها الى ملف الدعوى. ومعنى هذا أن قرار إزاحة رئيس مجلس الإدارة قد إتخذته الشركة، من دون إطلاع رئيسها، وأن هذا الخرق يُعتبر في نظر الجانب الفرنسي إنقلاباً داخلياً يهدف الى تفكيك اتفاق 1999. أي الاتفاق الذي يعطي «رينو» ما نسبته 43 في المئة من رأسمال «نيسان» مع حق التصويت. مثلما يعطي «نيسان» ما نسبته 15 في المئة من أسهم «رينو» من دون حق التصويت.

 

وقد تم كل ذلك خلال فترة قصيرة لا تزيد على ثلاث سنوات، قام غصن خلالها بتخفيف الأعباء المالية التي ترزح تحتها «نيسان»، وذلك من خلال صرف 22 ألف موظف. وعندما تعافت الشركة وقطعت مرحلة القلق، قام غصن بإنقاذ شركة «ميتسوبيشي موتورز» من الإفلاس، وضمها الى التحالف الذي أصبح مكوناً من «رينو» و»نيسان» و»ميتسوبيشي». وبعد مرور سنتين تقريباً، أعاد رئيس مجلس إدارة هذا التجمع توظيف 450 ألفاً بمن فيهم الـ 22 ألفاً الذين صرفهم سابقاً. وهو يقول عن تكوين تلك الكتلة الصناعية الضخمة إنه شعر بالارتياح كونه نجح في إزالة لقب «السكين» عنه. وكانت الصحف اليابانية والفرنسية قد وصفت معالجته للأزمة التي كانت تعصف بصناعة السيارات في اليابان بأنها عملية جراحية فرضت على «الطبيب» استخدام السكين أثناء إزالة الورم!

 

حدث أثناء فترة احتجازه أن تبارت الصحف اليابانية في تعداد منجزاته التي استحقت من الامبراطور، إبن الشمس، استقباله مرتين والإشادة بدوره الريادي. وكان الامبراطور بهذه الالتفاتة يريد أن يستثني غصن من القاعدة المتبعة في بلاده، والتي ترفض خدمات الغرباء على مختلف المستويات. لهذا السبب وسواه رأى اليابانيون في كارلوس غصن ايقونة عصرية تتقن فن الإبحار وسط أمواج العولمة التي تعلمها وخبرها في البرازيل وفرنسا ولبنان.

 

الصحف المعارضة للحكومة انتقدت بشدة إنحياز الدولة العلني الى شركة «نيسان». ونشرت مقالات عدة تطالب بها رئيس الوزراء شينزو آبي بوجوب تعديل القانون الجزائي المتضمن ثغرات كثيرة تفتح للظلم باباً وتوفر مبررأ. وكان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد اجتمع برئيس وزراء اليابان على هامش مجموعة العشرين في الأرجنتين، وطلب منه الحفاظ على وحدة المجموعة الصناعية، وإبقاء صيغة التحالف بين «رينو» و»نيسان» و»ميتسوبيشي».

 

ويبدو أن الشركات الصناعية والتجارية تملك من التأثير على الرأي العام أكثر مما يملكه الحكام السياسيون. والدليل أن خبر محاكمة غصن ظهر على إعلانات شاشة التلفزيون المنتشرة في الطرق، بغرض إعلام المواطنين بأن يتابعوا أخباره. وتعتبر شاشة الأنباء المتحركة أفضل وسيلة إعلامية يشاهدها آلاف المارة. ورأى رجال السلك الديبلوماسي العربي في هذا الإعلان مجرد تشهير بشخص لم يصدر الحكم بحقه بعد.

 

يقول المراسلون إن عدد الشابات والشبان الذين تحلقوا حول مبنى المحكمة يوم الثلثاء الماضي زاد عددهم على ألف شخص. وبما أن القاضي لا يسمح لأكثر من أربعة عشر مشاهد بحضور المحاكمة، فإن تدافع الجمهور إحتاج الى تدخل الشرطة. وعندما ظهر غصن، وهو يترجل من سيارة المساجين المصفحة، كان منظره صادماً لمن عرفوه… ولمن عرفوا عنه. والملفت أن شحوب وجهه وضمور خديه، وفقدانه عشرة كيلوغرام من وزنه، كل هذه التحولات أثرت في مظهره الخارجي. وبسبب سهره المتواصل والتفكير الدائم في الحال المزرية التي وصل اليها، ظهرت على رأسه علامات الشيب، كما ظهرت حول عينيه الغائرتين علامات الضجر والملل. ومع أن الشرطة منعته من دخول شقته الفارهة في طوكيو، إلا أنه احتفظ بالبذلة السوداء التي كان يرتديها في الطائرة.

 

وعندما تقدم نحو باب المحكمة، نزع الشرطي المرافق الأصفاد من معصميه، وسط دهشة الجمهور وصياحه. وكان من الطبيعي أن يتعثر في مشيته بسبب عدم اعتياده على لبس «شحاطة» من البلاستيك، وهو الذي كان يوصي على أحذيته لدى محلات «شيفرون» في باريس. ولما حاول الدخول الى قاعة المحكمة، اضطر الى رفع بنطلونه المربوط بخيط وليس بحزام. ولما إستأذن الشرطي بضرورة استعماله لأن ضمور خصره لا يكفيه الخيط، رفض طلبه. والحجة التي تذرّع بها أن المساجين عادة يستخدمون الحزام الجلدي لخنق أنفسهم. وكان هذا الجواب كافياً لإرباك غصن وارتفاع ضغط الدم لديه.

 

لكن غصن تمالك نفسه أثناء المرافعة، واستهل كلمته القصيرة (عشر دقائق فقط) بهذه العبارة: «حضرة القاضي. لقد اتهِمت خطأ… واحتجزِت ظلماً، وأنا الذي أحب «نيسان» وعمل على انقاذها من الإفلاس، كما يعرف كل شخص في اليابان. لذلك أطالب بإطلاق سراحي وإعلان براءتي.» لكن القاضي الياباني يوتشي تادا تجاهل طلب الاسترحام، وأمر بإعادة الموقوف الى الزنزانة لمدة يصعب تقديرها. خصوصاً أنه رفض التوقيع على إعلان أرسلته اليه هيئة المحكمة تسأله فيه الاعتراف بكل المخالفات القانونية التي ارتكبها. ولقد نشرت الصحف اليابانية قائمة بأهم هذه المخالفات:

 

التهمة الأولى: تلك المتعلقة بتصريحه عن مرتب أقل من قيمة مرتبه. وفي حال ثبتت صحة هذا التقدير، من المتوقع استجواب المدير التمثيلي السابق لـ «نيسان» غريغ كيلي، المتهم بالتواطؤ لإخفاء قسم من مرتب غصن.

 

وكان غصن قد أعلن في الصحف أنه يتقاضى ثمانية ملايين يورو خلال السنة. ومع هذا الرقم يُعتبر أحد رؤساء الشركات الأعلى أجراً في اليابان.

 

التهمة الثانية: إخفاء جزء من عائداته بمقدار 44 مليون دولار على امتداد بضع سنوات. وقد أصبح اجمالي المبالغ المهربة 71 مليون دولار.

 

التهمة الثالثة: استغلال ممتلكات الشركة لمنفعته الخاصة، ومن بينها خمسة منازل بينها منزله في محلة الأشرفية. وقد أثبت محاميه أن هذه المنازل والشقق مسجلة بإسم «نيسان» وليست بإسمه، وان استخدامه إياها يتم عادة بمعرفة أعضاء مجلس الشركة.

 

التهم الثانوية: استخدام طائرة الشركة لنقل زوجته الثانية كارول نحاس الى نيويورك حيث تقطن… أو توظيف شقيقته كمستشارة بعقد قيمته مئة ألف دولار سنوياً.

 

تؤكد الصحف المحايدة، أن زجّ كارلوس غصن في السجن، لم يكن لأسباب تتعلق بماضيه في شركة «نيسان»، بقدر ما يتعلق بطموحاته المستقبلية حيال دور الشركة داخل التحالف الثلاثي. وبما أن غصن بعد مرور 19 سنة على تشكيل هذا التحالف، رفض طلب «نيسان» الانفصال عن «رينو» لذلك قرر الإعلان في شهر آذار المقبل عن برنامج طموح لدمج الشركتين بصورة كاملة. ولقد توقعت الشركة اليابانية أن يأتي الدمج لمصلحة الشركة الفرنسية. لذلك قرر أعضاء مجلس الإدارة السبعة التخلص من غصن، باعتباره المخطط الأساسي للفكرة. وعليه اعتبرت الحكومة الفرنسية أن غصن تعرض لإنقلاب صامت قام به نائبه هيروتو ساكوا الذي خصّه رئيس المجلس بعنايته واهتمامه. وقد أيّده في هذه الخطوة الرئيس التنفيذي لـ «ميتسوبيشي» اوسامو ماسوكو الذي طالب بإقالة غصن فوراً. وهكذا قوبل «ايقونة» صناعة السيارات اليابانية بالجحود وإنكار الجميل.

 

أما المحاكمة المتوقع أن تبدأ بعد أشهر فلن تكون أفضل من مسرحية توقيفه الهزلية. وهو ما يكشف عيوب نظام العدالة في اليابان والذي قد لا يختلف كثيراً عن حكم قاراقوش!

 

* كاتب وصحافي لبناني