IMLebanon

لم أشكركَ بما يكفي

أستاذ أنسي، مضى عامان على الغياب. غيابكَ. عامان على حضوركَ بعد الغياب. “كان هذا سهواً”، جئتَ تقول لنا، لي، أنا التي سهوتُ عن شكركَ على أمور كثيرة قبل سفركَ. لم أشكركَ بما يكفي لأنكَ صالحتَني مع جنوني وتمرّدي وذلك الزبد في الرأس الذي كنتُ أعدّه خراباً وأريتَني أنه خلاصي وفرادتي. لم أشكرك بما يكفي على الإيمان بي. بقوّتي. بأحلامي. بموهبتي القليلة. بانهيار الجدران لا محالة. بالنهوض. بمتابعة المسير. باليأس الذي هو بداية الضوء. باليأس الذي هو حقّ. بالانكسار بلا خجل. بالخجل الذي هو حجاب للشموخ. وبالعزلة. بالعزلة روحاً قدساً.

لم أشكركَ بما يكفي لأنكَ من النادرين الذين علموني المحاولة، ثم المحاولة ثانيةً، ثم المحاولة أشدّ: أن لا أكتفي بالتمنّيات، أو بالشكوى من افتقاري إلى ما أفتقر إليه. ولكن أن أظل ناقصة لأن النقصان هدير القلب.

لم أشكركَ بما يكفي لأنكَ أهديتني إلى الضياع. الى العثرات وما بعدها من ولادات. الى العناد. الى الأغلاط والندوب وما بينهما من براكين هي الحياة، هي وحدها ولا شيء سواها.

لم أشكركَ بما يكفي لأنكَ درّبتَني من حيث لا تدري على المواجهة. على النظر الى الأعداء عيناً بعين. على رفع الكتفين وإنزالهما لأن لا أحد ولا شيء “بيحرز”. على نفض وسخ الألسنة كغبار. على السخرية من المستحيل مهما كان مستحيلاً. على الفخر بالانتقادات. على إعلان الأخطاء. على الإعلان والشفافية وتشريع النوافذ كأدوات حرب مطلقة في وجه الأنذال.

وأيضاً: لم أشكركَ بما يكفي لأنكَ استفززتَني على تحرير تقديري لذاتي من أحكام المجتمع. لأنكَ ظللتَ تكرّر على مسامعي كلمة “حرية” حتى صدّقتُها (رغم أني ما زلت لا أعرف الى الآن إذا كنتَ أنتَ تصدّقها). لأنكَ لقّنتَني فنّ الاستهتار بما يقول “الآخرون” وبما يفكرّون وبما يجيزون وبما يمنعون.

لم أشكركَ بما يكفي لأنكَ خوّفتَ الخوف الذي فيَّ حتى صار الخوف يخافني. لأنكَ حرّضتَني على منح نفسي، وحرّضتَني على استعادتها. على أن أؤلم وأن أتألم. على أن أكون نرجسية حتى عندما أمّحي، بل خصوصاً عندما أمّحي. على أن أكون جبارة عندما يطحنني العالم. على أن أتمزّق بصوتٍ عالٍ. على أن أَنهش وأُنهَش كي أصل الى ما بعد خيبات الأمل.

أستاذ أنسي، عامان على الغياب. عامان وأنتَ هنا، تتراكم فينا وتكبس بكلماتكَ على أحلامنا حتى تنفجر. ولا سقوط يستطيع تشويه جمالكَ.