IMLebanon

لم يستوعب معنى خروجه من لبنان..

من لم يستوعب مسبقا النتائج التي يمكن أن تترتب على اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، يصعب عليه فهم معنى الإنسحاب من لبنان. ويصعب عليه أكثر فهم معنى ثورة الشعب السوري عليه وعلى نظامه. باختصار شديد. لم يدرك بشّار الأسد أنّه خرج من سوريا، يوم إضطرّ إلى الخروج من لبنان تاركا «الساحة» لإيران التي تحاول بدورها تجريب حظّها في فرض الوصاية على الوطن الصغير.

مرّت في السادس والعشرين من نيسان ـ ابريل الجاري الذكرى العاشرة لجلاء القوات السورية عن لبنان. من كان يصدّق أن القوات السورية، ومعها الأجهزة الأمنية، يمكن أن تخرج يوما من لبنان بعد إحتلال استمرّ رسميا نحو ثلاثة عقود تحت شعار «شعب واحد في بلدين»…وذلك قبل أن يتبيّن أن هناك شعوبا عدّة في بلدين وفي ما يمكن أن يصبح أكثر من بلدين ودولتين.

لا شكّ أن اللبنانيين لم يتمكنوا من التنعم بالحرّية التي يعنيها الإنسحاب العسكري السوري. هذا عائد إلى أسباب عدة من بينها خسارة رفيق الحريري الذي إغتيل قبل شهرين واسبوعين من الإنسحاب السوري والذي كان دمه وراء الإستقلال الثاني الذي سمّاه الشهيد سمير قصير «استقلال ـ ». 

بقيت خسارة رفيق الحريري من النوع الذي لا يعوّض، لا في لبنان ولا في سوريا نفسها، حيث شعر النظام بمدى قدرته على لعب دور إيجابي في مجال نسج علاقة طبيعية بين لبنان وسوريا وبين اللبنانيين والسوريين، وبين السوريين أنفسهم، بما يخدم في نهاية المطاف البلدين في آن. 

كان الدور الذي يمكن لرفيق الحريري أن يلعبه في هذا المجال سببا كافيا كي تعمل ايران والنظام من أجل التخلص من الرجل الحالم بالعروبة، بمعناها الحضاري أوّلا، وبوضع الوطن الصغير، الذي اسمه لبنان، على خريطة العالم والمنطقة مجددا.

من بين الأسباب الأخرى التي حالت دون تمكن لبنان من التنعم بالحرية، مسارعة ايران عبر «حزب الله»، وهو ليس سوى لواء في «الحرس الثوري«، إلى ملء الفراغ الناجم عن الإنسحاب السوري. 

تلا ذلك افتعال حرب مع اسرائيل، كي تعيد الأخيرة، مستخدمة إرهاب الدولة، البلد سنوات إلى الخلف. 

ثم جاء اعتصام استمرّ سبعة عشر شهرا في الوسط التجاري لبيروت شارك فيه، إضافة إلى ميليشيا «حزب الله» تيار النائب المسيحي ميشال عون الذي باشر باكرا لعب الدور المطلوب منه ايرانيا، خصوصا في مجال تغطية عملية نشر البؤس في البلد. أصبح عون، بكل بساطة، عنوانا للغطاء المسيحي لعملية نشر البؤس في البلد.

في سياق تعداد الأسباب التي جعلت اللبنانيين غير قادرين على الإستفادة من جلاء الإحتلال، موجة الإغتيالات التي بدأت بالصديق والأخ سمير قصير. استهدفت الإغتيالات شخصيات معيّنة يمكن أن تلعب دورا في بناء البلد وتحصين مؤسساته الوطنية والدفاع عنها.

كان مطلوبا في كلّ وقت إفشال التجربة اللبنانية المختلفة التي تمثّلت يوم الرابع عشر من آذار ـ مارس ، حين نزل كلّ لبنان تقريبا إلى الشارع لتأكيد أن هناك بلدا يستأهل الحياة. أكّدت تظاهرة الرابع عشر من آذار أنّه يمكن أن يكون هناك بلد على المتوسط يشكل نموذجا للعيش المشترك بين طوائف ومذاهب وقوميات بعيدا كلّ البعد عن النظام الأقلّوي في سوريا ونتائج ما اسفر عنه الإحتلال الأميركي للعراق. 

جاء ظهور تنظيم «فتح الإسلام» السوري في مخيّم نهر البارد الفلسطيني قرب طرابلس كمحاولة واضحة لإيجاد شرخ في العلاقة بين اللبنانيين وإظهار السنّة بأنّهم يمثلون كلّ ما هو متطرّف وأنّ الجهود يجب أن تتركّز على بناء حلف الأقليات الذي عماده النظام السوري. استفاق النظام فجأة على مكان دفن مار مارون، بعدما ارتكب كلّ ما ارتكبه في حقّ الموارنة خصوصا والمسيحيين عموما.

بعد عشر سنوات على الإنسحاب السوري من لبنان، يمكن الخروج بمجموعة من الإستنتاجات التي كان في اساسها هذا التطوّر المحوري على الصعيد الإقليمي. إنّه تطوّر مرتبط على نحو مباشر بتسليم الولايات المتحدة العراق على صحن من فضّة إلى ايران. 

قبل كلّ شيء، تبيّن أنّ على لبنان الإستمرار في المقاومة من أجل استعادة حرّيته ووضعه الطبيعي ودوره المفترض في المنطقة. هذا الدور ليس وهما، بل هو نتيجة منطقية لصمود اللبنانيين عموما وقدرتهم على المقاومة. الدليل على ذلك أنّ اللبنانيين قاوموا الوصاية السورية وهم الآن يقاومون الوصاية الإيرانية التي لا بدّ من الإعتراف بأنّها نجحت إلى حدّ كبير في تحقيق إختراقات في مجال تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان من جهة والعثور على أداة مسيحية من جهة أخرى.

في ظلّ المقاومة اللبنانية المستمرّة، هناك أمران لا بد من التوقف عندهما. الأوّل أن بشّار الأسد لم يستوعب، إلى اللحظة معنى إضطراره إلى سحب قواته من لبنان. لم يتصرّف من منطلق أن إغتيال رفيق الحريري جريمة في حجم جريمة إجتياح صدّام حسين للكويت وأن عليه القيام بتغيير جذري على كلّ صعيد في حال كان يريد تفادي الوصول إلى مرحلة الرحيل عن دمشق، كما بات مطروحا الآن. فات الآن أوان القيام بمثل هذا التغيير! 

تصرّف الأسد الإبن من منطلق أن الإنسحاب من لبنان، يُعتبر ثمنا كافيا للتغطية على الجريمة. تبيّن مع مرور الوقت أن هذا الثمن ليس كافيا وأنّ أقل ما عليه عمله هو الخروج من السلطة. سيحصل ذلك عاجلا أم آجلا. ما نشهده اليوم في الغوطة والقلمون ودرعا وحتّى في احياء تعتبر جزءا من دمشق…وفي حلب وادلب ودير الزور وجسر الشغور، دليل على أن خروج النظام من لبنان كان بداية خروجه من سوريا أيضا. لم يكن كافيا تسليم لبنان إلى ايران كي يسلم رأس النظام في دمشق.

تستطيع ايران ابقاء هذا النظام على قيد الحياة سنة وسنتين وثلاث واربع وخمس سنوات. تستطيع المشاركة في ذبح الشعب السوري مباشرة أو عبر ميليشيات لبنانية عراقية وباكستانية وأفغانية…كما تستطيع إلغاء الحدود الدولية بين لبنان وسوريا، ولكن في نهاية المطاف، لا يمكن لأحد الإنتصار على الشعب السوري.

كان يمكن لبشّار الأسد أن يبدأ مراجعة حساباته اللبنانية والسورية والإقليمية لحظة إضطراره إلى الإنسحاب من لبنان. كان يُفترض به إدراك أنّ عليه الإهتمام من الآن فصاعدا بسوريا والسوريين ووقف الحديث المضحك ـ المبكي عن «الممانعة» و»المقاومة». هذان العنوانان تستخدمهما ايران لتوريط من يحب أن يورط نفسه في لعبة لا تخدم سوى مصالحها مع «الشيطان الأكبر» و»الشيطان الأصغر».

في النهاية، هل كان رئيس النظام السوري يمتلك من القدرات والتواضع ما يسمح له بتقدير حجم الجريمة التي شارك فيها، أو التي وجد من يشركه فيها؟

في كلّ الأحوال، سيبقى تاريخ السادس والعشرين من نيسان ـ ابريل من السنة ، تاريخا مفصليا. إنّه تاريخ بدء العدّ العكسي لخروج النظام السوري من سوريا بعد خروجه من لبنان!