الذين رهنوا لبنان كله، وفي الشهور الـ14 الأخيرة انتخاباته الرئاسية وحكومته ومجلسه النيابي، بالاتفاق النووي بين ايران والدول الـ6 الكبرى في العالم، يهزجون الآن ويرقصون احتفالاً بالاتفاق باعتباره نصراً غير مسبوق (وإلهياً، هذه المرة كذلك، بحسب الرئيس الايراني حسن روحاني الذي قال انه جاء استجابة لصلوات المؤمنين)، ليس لحليفهم في طهران وحده، بل لهم بالذات فضلاً عن كامل محور «الممانعة» في المنطقة أيضاً.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يفكون اذاً أسر لبنان، أو أقله العقد التي أقاموها بأنفسهم حول رئاسة الجمهورية فيه وتعطيل حكومته وشل عمل مجلس نوابه، بعد أن اعتبروا (أو خُيّل لهم) أنهم حققوا انتصاراً كانوا يحلمون به منذ شهور في هذا الملف؟
لا شيء يشي بهذا حتى الآن، ان لم تكن هناك مؤشرات على النقيض منه تماماً. فهؤلاء ينطلقون من الاتفاق هذا الى شبه غيبوبة ترسو على وهمين: أولهما، أن ايران باتت دولة عظمى لا يمكن لأحد أن يجادل بشأنها، كما قال أحدهم، لمجرد أنها كانت تجلس وحيدة في مواجهة الدول الخمس العظمى زائداً ألمانياً(وليس، كما هي في الحقيقة، باعتبارها دولة مارقة تحاول هذه الدول حشرها في قفص)، وأنها تمكنت اضافة الى ذلك من انتزاع اتفاق لصالحها. وثانيهما، أن انتصار ايران النووي هذا لن يمر وقت طويل حتى يتناسل انتصارات أخرى في كل من سوريا والعراق واليمن وعلى مساحة المنطقة كلها.
ومن هنا تحديداً، يرى هؤلاء أن شيئاً لن يتغير في لبنان الى أن تتحقق «الانتصارات» التالية، وفي سوريا بصورة خاصة، ما دامت قيادتهم في «حزب الله» تخوض حربها اللبنانية (فضلاً عن الاقليمية فيها) من ناحية، وما دام بشار الأسد لم يأخذ بعد حصته من النجاح الايراني في مواجهة العالم من ناحية ثانية.
هل هذا فقط؟ طبعاً لا، فهؤلاء الذين اكتفوا في الفترة الماضية بالدعوة للنزول الى مجلس النواب وانتخاب مرشحهم للرئاسة، قد يتوهمون بعد الاتفاق الايراني بأن يطوروا «الدعوة» الحبية هذه الى نوع من «الأمر»، بالأسلوب ذاته الذي اعتمدوه عندما ظنوا قبل شهور أن حربهم في سوريا تتجه لصالحهم: سارعوا الى قبول ما يعرض عليكم، والا فلن تجدوا من يقبل بمواصلة هذا العرض بعد الآن!
بل وأكثر، اذ قد يبدأون من هنا رحلة كلام جديدة: اذا كنتم تراهنون بعد على الولايات المتحدة، أو حتى على غيرها من الدول الغربية، فقد استسلمت هذه كلها لموقف ايران وقرارها… وليس في ما يتعلق بالملف النووي لهذه الدولة فقط، انما في المسائل الاقليمية التي تنخرط فيها كلها أيضاً.
والحال أن هذه هي معضلة لبنان الكبرى، قبل الاتفاق الأميركي – الايراني كما بعده. يرهنون لبنان لملفات ايران العديدة، النووي منها والسياسي والمالي والاقليمي، ثم يتهمون الآخرين بأنهم هم من يراهن على الولايات المتحدة التي كان اسمها «الشيطان الأكبر» ويربط مستقبل لبنان ومصيره بها.
كانت هذه معضلة لبنان قبل نشوب الثورات على أنظمة الحكم في سوريا والعراق واليمن، وبقيت كذلك بعدها. وكانت معضلته كذلك قبل الاتفاق الغربي مع ايران، وستبقى بعده أيضاً. لماذا؟، لأن هذه الفئة من اللبنانيين لا تعرف من جهة، ولا تريد من جهة ثانية، كيف توظف ما تراه لديها من «فائض قوة» في سياسات الداخل اللبناني.
من هنا حديثها تارة عما تسميه «المؤتمر التأسيسي»، وتارة ثانية عن «القانون الأرثوذكسي»، وثالثة عن «اللامركزية الموسعة» أو «الفيديرالية»، ورابعة عن النظام الرئاسي وانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، وخامسة وسادسة الخ…
ولأن الحال في المنطقة على ما هي عليه، من ايران الى سوريا والعراق واليمن، فضلاً عن الحال في ليبيا ومصر وفلسطين وغيرها، فلا يجد هؤلاء في أيديهم الا ابقاء لبنان وشعبه ومصيرهما في الأسر.
في خطابهم السياسي، أن ما بعد الاتفاق النووي مع ايران لن يكون كما قبله. لكن ممارساتهم على الأرض، وفي لبنان بالذات، لا شيء تغير أو سيتغير في المستقبل القريب.
وتلك هي مرة أخرى معضلة لبنان الكبرى… الجديدة – القديمة.