فجّر قرارُ البريطانيين بغالبيّتهم الخروج من الإتحاد الأوروربي مفاجأة زلزلت الغرفَ السياسية والاقتصادية والثقافية، ويمكن القول إنّ تداعياته ستطال كُلَّ المجالات المختلفة في العالم. وبدأ زمنُ تدارك تداعيات الخروج على كلّ المستويات وتحضير خطط للمرحلة المقبلة، أكانت في الأشهر أو السنوات المقبلة، لتفادي الآثار السلبية الخطرة جداً على العالم، وبريطانيا تحديداً، والإفادة من القرار لجلب التداعيات الإيجابية.
وفي السياق، أكّد الأستاذ المحاضر في العلاقات الدولية الدكتور وليد الأيوبي، في حديث لـ«الجمهورية»، أنّ «هناك أسباباً عديدة، منها التجربة البريطانية داخل مؤسّسة الإتحاد الأوروبي، وهناك أسباب موضوعية منها أنّ بريطانيا تُعبّر عن خصوصية ثقافية وتاريخية وسياسية وجغرافية أيضاً، مع العلم أنّ دول الاتحاد الأوروبي تُعبّر عن خصوصيات مختلفة ومتناقضة أحياناً».
وأضاف: «في الحالة الأوروبية، خصوصاً البريطانية، هذه الخصوصية ناكرة وعلّموهم (الأوروبيون) بأنّهم «جسم طارئ» على هذه التجربة، وهم يعلمون أيضاً بأنّ البريطانيين هم «جسم طارئ» على هذه التجربة بدليل أنّ في إحدى المناسبات السياسية، عبّر الجنرال ديغول عن أنّه من الصعب جداً ومن غير المنطقي والطبيعي أن تكون بريطانيا جزءاً من الاتحاد، تماماً مثلما عبّر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي سابقاً عن رفضه بأن تكون تركيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي، فهو لا يستطيع أن يتصوّر حدود الاتحاد قرب سوريا والعراق».
الغربة
وشدّد الأيوبي على أنّ «هذه الخصوصيات ليست سدّاً كبيراً إذ بالعمل المؤسّسي والسياسي وعبر الحوار، يمكن إنجاز أعمال خارقة سياسياً، والدليل أنّ بريطانيا بقيت في الاتحاد 40 إلى 50 سنة»، مشيراً إلى أنّ «بقاء بريطانيا في الاتحاد عرّضها لمشكلات تُعاني منها دول أوروبية أخرى».
وتابع أنّ «المسافة الجيو – سايكولوجية بين بريطانيا ومؤسّسات الاتحاد في بروكسل لم تجعلها عرضة لما يحصل في بروكسل وما تُعبّر عنه هذه الاخيرة من مصالح»، مؤكّداً أنّ «الشعب البريطاني يعتّز بديموقراطيته ويُحاسب، وهو يشعر بهذه الغربة المتنامية مع الزمن إزاء بروكسل التي خلقت نوعاً من القطيعة النفسيّة عبّرت عنها عبر الإستفتاء».
وفي ما يتعلّق باحتمال ظهور استفتاءاتٍ جديدة في بلدان أوروبية أخرى، لفت إلى أنّ «هناك تداعياتٍ خطيرة جداً على مستوى التجربة الأوروبية، أبرزها التي تُعبّر عنها اليوم الحركاتُ الفاشية الجديدة أو المُتطرّفة وطنياً وأوروبياً»، موضحاً أنّ «رئيسة مؤسّس «حزب الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف السابقة ماري لوبان، طالبت باستفتاءٍ على هذا المستوى وهناك أيضاً مطالب شبيهة ستُعبّر عن نفسها لاحقاً».
وإعتبر أنّ «موضوع بريطانيا ليس موضوعاً داخلياً بل إنه أوروبي، واستطاعت المؤسّسات الأوروبية أن تعبر التناقضات الثقافية والتاريخية الأوروبية، لكنّ هذه التناقضات لا يمكن محوُها كُلياً من المشهد السياسي»، مشيراً إلى أنّه «مع تنامي الإسلام السياسي وتداعياته هنا وهناك، تتنامى هذه النزعة نحو الإنفصال بشكلٍ أو بآخر».
وتظهّرت هذه النزعة عبر نزوح يد العاملة من أوروبا الشرقية باتجاه بريطانيا، ما خلق نوعاً من التذمّر الداخلي من جهة، ونزوح المهاجرين من الشرق الأوسط ما أدّى إلى تعقيد الأمور أكثر»، وفق ما لفت الأستاذ المحاضر في العلاقات الدولية. وكشف أنّ «نسبة المشاركة في الاستفتاء لهي هائلة جداً، فنحو 74 في المئة شاركوا، ما يدلّ على أنّ هذا القرار نابعٌ من البريطانيين أنفسهم ومن الذات السياسية البريطانية، والقرار ليس مزحة ونزوة بل قناعة».
وأكّد أنّ «مكوّنات بريطانيا الداخلية متمايزة عن بقية المكوّنات التي تُكوّن أرضية الوحدات السياسية، وهناك مكوّنات محلّية أيضاً نزّاعة نحو الإستقلال عن بريطانيا نفسها»، وقال: «هناك مؤشّرات الى أنّ غالبية مطلقة من الأصوات في إيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز عبّرت عن إرادتها في البقاء داخل أوروبا، لكنّ هؤلاء عبّروا أيضاً عن عدم رغبتهم في البقاء في بريطانيا، ما يُبرهن أنّهم لا يُحبّذون البقاء داخل إطار «الأوروبي الكبير» لأنه سيخسر خصوصيّته». وتابع أنّ «هناك تناقضاً على هذا المستوى لجهة دراسة هذا المؤشّر ودلالاته، وأراها منطقية لأنّها تنسجم مع هذه النزعة».
خروج دول أخرى
وردّاً على سؤال في شأن إمكان خروج دول غيرها من الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، قال الأيوبي إنّ «الدول الأوروبية، خصوصاً الغنية، عانَت كثيراً مع الاتحاد ولولا رغبتها الجامحة والصادقة بالبقاء في الاتحاد لكانت إنفصلت منذ فترة طويلة». وأعلن: «عندما إعتمدنا «اليورو» ووضعنا معايير إقتصادية وإلخ.
تراجعت الاقتصاديات الأوروبية للدول الغنية مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، باستثناء ألمانيا وبريطانيا ضمناً»، مضيفاً أنّ «الاتحاد الأوروبي مقلق، غير أنّ علينا النظر بواقعية: فإمّا أن ندفع ثمناً لهذا الاتحاد الذي يُجنّبنا نزاعاتٍ وحروباً مستقبلية كما حصلت في الحرب العالمية الأولى والثانية والقرن التاسع عشر، أو أن نستقلّ ذاتياً ونرتقي اقتصادياً لكن مع تعريض أنفسنا إلى هذا التنازع الخطير الذي كان شكّل أولوية وجود الاتحاد».
وإستدرك قائلاً إنّ «هذا التنازع موجود اليوم عبر مظاهر عدة، أهمّها نبذ سياسي روسي خطير وعظيم جداً على الاتحاد، وخروج بريطانيا يدفع بمزيد من التأثير لروسيا في سياسات الاتحاد قريباً»، مشدّداً على أنّ هذه الخطوة خضعت لمنطق «DOMINO EFFECT» وإستدرجت دولاً أخرى إلى اتخاذ خطواتٍ من هذا النوع، وسنعود إلى النظام السياسي الأوروبي الذي كان قائماً في القرن التاسع عشر».
وأكّد أن «لا مصلحة للاستقرار العالمي بتفكّك الاتحاد الأوروبي، والخطوة اليوم تعطي ذرائع لكُلّ النزاعات التقسيمية في الإقليم العربي لتُعبّر أكثر عن نفسها وسيطال مجتمعات أخرى».
الدور الغربي والأميركي
إلى ذلك، أشار الأيوبي إلى أنّه «عندما تتكلم عن الموقف الغربي تقصد أوروبا وأميركا، وأوروبا مكوّنة من 4 – 5 دول مهمّة، وما حدث يُشكّل خطراً على الدور الغربي السياسي والعسكري في العالم وعلى حضارات الغرب نفسه»، مؤكّداً أن «لا مصلحة لأميركا بما حصل ولا مصلحة لها في عودة أوروبا القديمة، وإذا إنتشرت هذه الظاهرة ستصل روسيا إلى أبواب باريس».