لا يبدو أنَّ بين الفريق الحاكم في البلد اليوم من يؤمن بالدولة وبالقطاع العام. الجميع، هنا، أقرب إلى عقل القطاع الخاص، وإلى أرباحه أيضاً. وهي الأرباح التي تجعل القوى الممسكة بالسلطة قادرة على تمويل البقاء. أما الدولة، فهي البقرة الحلوب التي يمكن أخذ ما تدرّه.
وهي، في الوقت نفسه، المكان الأنسب لتوظيف الأزلام والمحاسيب.
عندما اقترحت «القوات اللبنانية» خصخصة قطاع الكهرباء لم تأتِ بجديد. ذلك أنَّ خطة الوزير جبران باسيل الخاصة بهذا القطاع تفتح في مرحلتها النهائية باب الخصخصة، ولو بأشكال مختلفة عما تعارف عليه اللبنانيون في خلال حكم الرئيس الراحل رفيق الحريري. لكن الفكرة أنَّ «القوات» التي قامت كتنظيم مسلح على أنقاض الدولة وكمشروع بديل لها في حقبة الثمانينيات، تعود لتقول إنها غير مؤمنة بالدولة، وإنَّ الإنفاق عبر الدولة غير مجدٍ. بل هي تدعو إلى عدم إنفاق أي قرش على قطاع كبير كالكهرباء، وتطلب نقله مباشرة إلى القطاع الخاص. من دون أن تبذل جهداً في شرح علمي للجمهور حول فوائد خطوة كهذه أو مضارّها.
أصلاً، في مناقشة ملف الموازنة العامة، لا تظهر الغالبية الوزارية الحماسة المطلوبة لإعادة الاعتبار إلى القطاع العام. يبدو حزب الله ومعه الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحركة أمل إلى حد ما، أقرب إلى المحافظة على نفوذ مؤسسات القطاع العام. لكن هذه القوى لا تملك غالبية وزارية ولا نيابية لتعطيل مشاريع الخصخصة. ما يعني، من جديد، أنَّ منع تدمير القطاع العام دونه حركة احتجاجية من خارج مؤسسات السلطة.
اللافت الآن أنَّ تيار «المستقبل» الذي يمثل رأس الحربة في التيار الليبرالي، يتعرض اليوم لسرقة شعاراته من قبل قوى أخرى. حتى التيار الوطني الحر، يبدو كأنه عاد إلى القسم الاقتصادي في «الكتاب البرتقالي» الشهير. وبالتالي، إنَّ أي توقع لتغييرات فعلية من قبل هذا الفريق، إنما هو تغيير لا يمسّ جوهر السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي كانت قائمة. وبهذا المعنى، يمكن فهم رغبة فريق مكون من رجال أعمال ومصرفيين، يعمل بالقرب من قيادة التيار الوطني الحر، لإنضاج مشروع تسوية مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تقضي بأن يبقى في منصبه مقابل مغادرته ضفة الحريري.
هذه المناخات تدعو إلى الحذر إزاء ملفات كثيرة أبرزها التعيينات الأمنية والإدارية والقضائية، وحتى المتعلقة بمؤسسات مثل المصرف المركزي والمؤسسات التابعة له من الميدل إيست إلى كازينو لبنان إلى غيرهما. وإذا كان بين المقربين من الرئيس عون من يعتبر أنَّ المعركة هي فقط لاسترداد مواقع مسيحية من القوى الإسلامية، فهذا أمر مستحب عند القادة الطائفيين الآخرين ما دامت العملية لن تمسّ زعاماتهم على طوائفهم. وبالتالي، ينحصر التغيير بأن صار للمسيحيين مرجعية داخل الدولة تسيطر على مواقعهم، وتملك حق الفيتو على اختيار من يمثلهم من الأشخاص، كما هي الحال بالنسبة إلى بقية الطوائف، حيث يمسك الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري والنائب وليد جنبلاط بمفتاح التوظيف عند السنّة والشيعة والدروز. وهذا ما يفسر خلفية المناقشات حول قانون الانتخابات النيابية. إذ إنَّ من يعارض مشروع النسبية إنما هو الذي يشعر بخطر على أُحادية قيادته داخل طائفته. علماً أنه يجب تحييد بري عن هذه المجموعة، لكونه لا يواجه أصلاً الخطر المحدق بالآخرين، ولا سيما الحريري وجنبلاط.
بناءً عليه، تعود الأمور من جديد إلى ملعب الرئيس عون. وهو قد يكون الوحيد ــــ في فريقه ــــ الذي عاش في كنف مؤسسات الدولة، ويعرف أهمية دولة الرعاية الخالية من الفساد، وهو اليوم الوحيد القادر على تصويب الأمور. ومثلما يتمسك بالقانون النسبي لتصحيح التمثيل النيابي عند غالبية اللبنانيين، فهو معني اليوم بمواجهة مشروع إطاحة بقايا الدولة اللبنانية.
أما الطرف الآخر، فهو حزب الله الذي لا يمكنه البقاء بعيداً عن مواجهة معركة التغيير الداخلي. ليس لأنها مهمة وطنية أيضاً، بل لأنَّ جمهوره سيكون أول المتضررين من هذه السياسات الهادفة إلى رهن البلاد لمجموعة من القوى والشخصيات التي لم ولن تتوقف عن انتهاك الحق العام، وابتلاع المال العام، وهي الطبقة التي غالباً ما تكون الأقرب إلى فعل الخيانة الوطنية!