بين شركات النفط وتحالف من المهرّبين اللبنانيين والسوريين، يخسر لبنان يومياً مبالغ من الدولارات المدعومة من مصرف لبنان وتخسر سوريا دولاراتها «الكاش». النيابة العامة التمييزية تحرّكت أمس، فيما اتخذت الجمارك إجراءات مشدّدة، وقام الجيش اللبناني باحتجاز عدد من الصهاريج في البقاع والشمال للتأكد من وجهتها، بينما من المتوقع أن توصل التحقيقات إلى «تجار كبار»
خلال الأيام الماضية، عاد ملفّ التهريب عبر الحدود اللبنانية – السورية إلى الواجهة، مع فقدان مادة المازوت في السوق اللبنانية والحملة الإعلامية المركّزة. ويوم أمس، دخل الحزب التقدمي الاشتراكي «قضائياً» على الخط، بعدما كان تركيز نواب اللقاء الديموقراطي على الضخ الإعلامي، وتقدّمت الكتلة، بحسب ما أعلن النائب هادي أبو الحسن، بإخبار إلى النيابة العامة التمييزية، لفتح تحقيق في تهريب سلع أساسية من لبنان.
لم ينقطع التهريب يوماً من لبنان نحو سوريا وبالعكس، في حركة دائمة تختلف فيها السلع واتجاهها بحسب تطورات الأسواق والنقد في البلدين. إلّا أن الأزمة الأخيرة التي يعاني منها لبنان واستمرار مصرف لبنان في دعم مادة المازوت بالتوازي مع اشتداد الحصار على سوريا خلال الأشهر الماضية، لا سيّما أن الحصار سيتفاقم في المرحلة المقبلة مع دخول قانون «سيزر» الأميركي لمعاقبة سوريا حيّز التنفيذ، جعلا من تهريب مادة المازوت نحو سوريا أمراً مربحاً للمهرّبين وشركائهم على حدٍّ سواء، بعدما كان الأمر معكوساً خلال عقود كاملة، كان فيها الوقود السوري أرخص من الوقود اللبناني ومصلحة المهرّبين اقتضت تهريب الوقود السوري إلى بيروت.
وعلى الرغم من الضجّة، إلّا أنه حتى ليل أمس لم تكن تفاصيل الملفّ قد اكتملت عند الجهات المعنية، بشأن الجهات المتورطة وآلية عمليات التهريب الجديدة والكميات المهرّبة. إلّا أن الأمر المؤكّد بحسب معطيات مرجع أمني وقضائي، هو أن خطوط التهريب هي ذاتها من منطقتي الهرمل ووادي خالد، وأن الكميات التي يجري الحديث عنها مضخّمة.
ما يحصل، بحسب المرجع الأمني، أن «المهرّبين وشركات كبيرة لتوزيع الوقود، يفضّلون بيع المازوت إلى سوريا، للاستفادة من فرق السعر بين لبنان وسوريا مؤخّراً والدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان للمازوت، لتهريبه بواسطة خمسين إلى مئة صهريج في اليوم من معابر غير شرعية في الهرمل وفي وادي خالد». ويضيف أنه «يتمّ تهريب بعض كميّات الطحين من القمح الطري إلى سوريا ليستخدم في صناعة الخبز السياحي، وهي مادة مدعومة من المصرف المركزي أيضاً». إلّا أن المصدر يؤكّد أن «قدرة الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية على ضبط الحدود بنسبة 100% هو أمر مستحيل» وأن «المناطق التي يتمّ فيها التهريب لم يكمل الجيش انتشاره فيها كما كان مخططاً بفعل الأزمة السياسية والأمنية في الداخل وقرار وقف التطويع بسبب الأزمة المالية».
مرجع أمني: الحلّ يبدأ من مراقبة الوقود قبل خروجه من الشركات ووصوله إلى الطرقات
لكن يجزم المصدر بأن الجيش وباقي الأجهزة، ولا سيما الجمارك، اتخذت إجراءات مشدّدة خلال اليومين الماضيين، حيث عززت بعض المواقع الحدودية بجنود إضافيين، ولاحقت شاحنات التهريب وأوقفت صهاريج متجهة نحو منطقة البقاع الشمالي وعكار نقلتها إلى ثكنات الجيش للتأكد من وجهتها». لكنّ الأزمة هي في أن «العديد من المهربين إمّا من أصحاب المحطات أو يتفقون مع الشركات الكبيرة، وبالتالي فإن ضبط الأمر على الطرقات أمر صعب، والحلّ يبدأ من مراقبة الوقود قبل خروجه من الشركات ووصوله إلى الطرقات»، عبر وجود عناصر من الجمارك داخل كل شركة مستوردة للنفط يراقبون مانيفستو التوزيع ليضمنوا أن الوجهة هي المحطات والسوق اللبنانية، وعلى هذا الأساس تتم مراقبة عمل المحطات وكشوفاتها، وهذا الأمر يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء لإلزام الشركات بحضور يومي لعناصر الجمارك لمراقبة عمليات التوزيع».
أمّا بشأن تهريب القمح، فيؤكّد المصدر الأمني أن «تهريب القمح يحصل لكن بكميات قليلة»، فيما يدرس جهاز أمني آخر إمكانية أن يكون بعض التجار في البقاع والشمال يقومون بتكديس كميات من الحبوب بقصد احتكارها وطرحها في الأسواق مع ارتفاع أسعار السلع مجدّداً».
بالتوازي، يقول مصدر قضائي لـ«الأخبار» إن القضاء تحرّك و«الأجهزة الأمنية بدأت بجمع المعلومات واتخاذ التدابير. من الواضح أن هناك تحالفاً بين المهرّبين وشركات كبيرة، لكن التحقيق والمحاسبة سيطالان الجميع».
من جهته، يشرح خبير في سوق المحروقات والنفط لـ«الأخبار» ما يحصل، مؤكّداً أن «المستفيد الأول من هذه العمليات هو شبكات التهريب (وشركات توزيع الوقود المتورطة مع شبكات التهريب)، وما يحصل يعود بالضرر على الدولة اللبنانية والدولة السورية ويسبب أزمة». فمصرف لبنان يغطي ما نسبته 85% من فاتورة الاستيراد بالدولار الأميركي (على أساس 1515 ليرة للدولار، فيبلغ تقريباً سعر الصفيحة حوالى 9100 ليرة لبنانية، في حين تبلغ تقريباً كلفتها اليوم في السوق السورية حوالى 20 ألف ليرة لبنانية. وعندها يقوم المهرّبون ببيعها لسوريا ما بين 12 إلى 13 ألف ليرة لبنانية، ليضيف المهربون السوريون أرباحاً إليها ثم يبيعونها في السوق السورية، فتبقى مربحة لهم». ويؤكّد الخبير أن «بعض العمليات يموّل من المهربين السوريين بالدولار، وبالتالي تخسر سوريا والمصرف المركزي اللبناني الدولارات لحساب المهرّبين». ويقدّر الخبير أن «الكميات لا تتجاوز في اليوم حوالى نصف مليون ليتر، بغالبها من شركتين معروفتين في السوق، والواضح أن الوزارة ليس لديها وقود، وهي عملياً تؤمّن 70% من السوق و30% من الشركات، لذلك تنعكس الأزمة على الأسواق». ويضيف الخبير أنه قبل فترة «كان يدخل مليون ونصف مليون ليتر من البنزين السوري المهرّب إلى السوق اللبنانية، وكان هناك مصلحة للبنان بذلك». وينتقد المصدر «استمرار مصرف لبنان في دعم المازوت بدل تحرير السعر، وبذلك يوقف عمليات التهريب، طالما أن المستهلك الرئيسي للمادة هو مولّدات الكهرباء. لكن ذلك يجب أن يكون مقروناً بدعم المواطنين بالمخصصات المالية المباشرة، لكي يتوجّه الدعم على الوقود نحو الشرائح المحتاجة بالفعل، وتقاضي الضريبة من القادرين على دفعها، بدل استهلاك الدولارات في مصرف لبنان وغياب العدالة عن توزيع الدعم».